ارشيف من : 2005-2008
معاول الحداثة تهدم ذاكرة التاريخ: المباني التاريخية في فلسطين تتضاءل

انعطافة مفاجئة في شارع إحدى مدن الضفة الغربية, تخرجك من حي تعيدك مبانيه إلى عشرينات القرن الماضي إلى أحياء تغلف حداثة البناء كل تفاصيلها من الباب حتى النافذة.
لكن الفرق شاسع، فمباني العشرينات متهالكة وفقد بعضها "هيبته" التي كانت ذات زمن, فيما المباني حديثة الإنشاء متينة في بنائها متعددة في طوابقها.
السير في مدينة صغيرة كطوباس شمال الضفة الغربية, كفيل بأن يكشف عن حجم ما أصاب المباني التاريخية من سوء حال.
فأحال البعض بعضها إلى زرائب للبهائم وأقنان للحمام, فيما هجر بعضها منذ سنوات وانتقل ساكنوه إلى بناء حديث من الحجر المنقوش مستوي الأضلاع.
من طرازين معماريين مختلفين تتألف هذه المدينة كما هي معظم البلدات والقرى الفلسطينية.
الأول الطراز التقليدي المبنية دوره من حجارة غير مستوية تقوم عليها قناطر تحميها من المطر، وتحفظ رطوبتها في الصيف ودفئها في الشتاء.
وطراز حديث طغى على التقليدي الآخذ بالذوبان في زحمة البناء الحديث. وشكلت القناطر فيما مضى جزءاً مهما من ثقافة المعمار مثلما تشكل الآن السقوف القرميدية رمز للثقافة المستوردة.
وبعض المباني التي كانت ذات يوم قصور مشيدة في نظر مالكيها, باتت الآن خربة لا فائدة منها من وجهة نظر السكان الذين يرغبون في التوسع العمراني الحديث.
وأطاح الزمن بهذه المباني التي شكلت ذات يوم قرية صغيرة كما أطاح بذاكرة تاريخ المدينة التي بنيت على أنقاض بلدة كنعانية كهفية تدعى توباسيوس.
قبالة مبنى بلدية طوباس تهاوت قبل سنين إحدى البنايات القديمة التي استخدمت كمقر مؤقت لقوات الأمن بعد أن دمرتها الجرافات الإسرائيلية.
وفي مكان قريب تهاوت بناية كبيرة استخدمت في القرن الماضي مطحنة حبوب حجرية كان يلجأ إليها السكان من مناطق بعيدة.
وحسب سجلات التوثيق في وحدة السجل الوطني للمباني التاريخية في مركز المعمار الشعبي (رواق) فان عدد المباني التاريخية في مدينة طوباس لوحدها يبلغ 357 فيما يبلغ عدد المباني في المحافظة حوالي 547 مبنى.
ونفذ رواق خلال السنوات الماضية مسحاً للمباني التاريخية في الضفة الغربية وقطاع غزة ورمم بعضها كما في طوباس.
لكن كثير من المباني تهدمت دون أن يلتفت أحد إلى قيمتها وأخذت الحداثة تزحف لطمس التاريخ و"تأكل" منه قطعا سنة بعد سنة.
من على قمة مشرفة على طوباس من ناحية الغرب تبدو البلدة القديمة وقد أحاطها البناء الجديد تائهة بين الدور المبنية من الحجر والاسمنت.
لكن من أعلى قمة جبل جادر من جهة الشرق لا تبدو البلدة القديمة ظاهرة البتة. والاقتراب من المركز تظهر دار الحاج محمد أبو حسن المحاطة بسور سميك ضخم علامة فارقة فيها.
في هذه الدار الكبيرة ذات الأبواب العالية والشبابيك المرتفعة تسكن عدة عائلات من أحفاد أبو حسن فيما دور قديمة تجاورها فقدت ساكنيها منذ سنوات.
للدار باب رئيس قديم كبير واحد, يخرج ويدخل منه كل من يسكن الدار يفضي الى الساحة الواسعة التي تحيطها الغرف.
وهذا النمط من البناء كان تسكنه العائلات الميسورة، فيما سكنت العائلات الفقيرة في عقود من غرفة واحدة لا ساحة لها.
وفي مجمع دور عمره أكثر من 150 سنة يشبه دار أبو حسن تسكن خمس عائلات أخرى.
وتبدو ساحة هذا المجمع نظيف مرتبة وتبدو جدران الغرف مرممة حديثاً.
"هذا البيت القديم متين رممناه مرات عديد وقت الحاجة"، قال مطيع صوافطة أحد ساكني المجمع الذي ورث جزءاً منه عن أبيه.
مقابل المجمع بني السكان على الطرف الآخر من الشارع بناية من أربعة طوابق أحالوا الجزء السفلي منها لمحلات تجارية .
ويبدو المجمع القديم والبناية الحديثة حالتين معماريتين من زمنين مختلفين يفصل بينها شارع معبد.
وفي ركن مجاور من الشارع رممت رواق بناية خاصة استملكتها البلدية وحولتها الى مدرسة أساسية تنوي في المستقبل القريب تحوليها إلى مبنى للمكتبة العامة.
وقال عقاب دراغمة رئيس بلدية طوباس: إن المجلس البلدي عمل دائماً للحفاظ على الطابع المعماري القديم بكل الطرق لكن التوسعة الكبيرة في البناء خلال فترة وجيزة اثر على ذلك الطابع.
وشهدت طوباس خلال السنوات الأخيرة توسعاً أفقياً كبيراً في البناء حتى وصلت مساحة المدينة إلى 10 كم2 كما يقول رئيس البلدية.
وقال "البلدية لم تدمر أي مبنى قديم. هذه سياسة نتبعها, وهناك إجراءات لإصلاح أي خلل يحدث في هذه المباني".
وتشير الروايات التاريخية، إلى أن طوباس التي بناها الكنعانيون وسكنها الرومان وسموها تيبس كانت في الأصل مدينة كهفية كما يشير السكان الذين يتحدثون عن كهوف تمتد لمئات الأمتار تحت البلدة القديمة.
"كثيراً من البيوت القديمة أقيمت هنا فوق كهوف صخرية سكنها الأجداد الكنعانيون"قال دراغمة.
وقال دراغمة: "إذا نظرنا للبلدة قبل 30 سنة وقارنها بما هو عليه الآن نجد أن البناء التقليدي اخذ يتلاشى تقريباً".
وأضاف "هذه المباني التي تعطي المدينة طابعا معماريا مميزاً يجب الحفاظ عليها، نأمل أن نجد جهة تمول عملاً كهذا".
لكن عملياً على أرض الواقع الهدم مستمر والبناء الحديث يتزايد, والحاضر الحداثي يطمس التاريخ التراثي.
وتشير سجلات رواق التي تعتبر المرجع الوحيد لتوثيق عدد هذه المباني إلى أن هناك قرابة 51 ألف مبنى تاريخي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وإسرائيل دمرت عام 1948 420 قرية وأزالت طابعها المعماري عن الوجود.
ويشكل النمط العمراني هذا جزءاً من الهوية الفلسطينية غير المنقولة.
في طوباس يبدو أن الحفاظ على سقيفة تقليدية وسط حي شيدت فيه منازل أسمنيتة أمر لا يروق للكثيرين.
وهذه المنازل التي قاومت عوامل الطقس والزلازل والهزات الأرضية على مدار السنوات الماضية لا تستطيع الآن مقاومة النظرة الحداثية للبناء.
وهدم المعظم سقائفهم المبنية من طين والمسقوفة بالحطب.
تبدو سقائف مهدمة في أحياء كثيرة من طوباس يقول مالكوها: أنها كانت تستخدم في السابق زرائب للحيوانات وبعضها كان حاويات للقش والحبوب.
عام 1927 وقع بعض هذه السقائف بفعل الزلزال الذي ضرب المنطقة بيد أن المنازل التي كانت تعلوها القناطر صمدت أمام الهزات.
وقال عبد اللطيف مساعيد المهندس المعماري في بلدية طوباس: إن تحمل هذه المباني للزلزال الذي ضرب المنطقة قبل 90 عاماً لا يعني أنها ستظل تتحمل إلى الأبد.
وأضاف" الحفاظ على المباني القديمة يتطلب من الجميع أن يحافظوا عليها".
المصدر : وكالات ـ وفا / مدينة طوباس، إعداد : جميل ضبابات