ارشيف من : 2005-2008
الضاحية بعد عشرين شهراً من الآن كما كانت بشراً وحجراً مع المقاومة

بعد عشرين شهراً من اليوم، سيركن الحاج زكريا سيارته بجانب الطريق في مكان مخصص لوقوف السيارات، ويعبر ممر المشاة المرصوف بمكعبات سمراء نحو سوق "البازار" في بئر العبد ذي الواجهة العريضة الشامخة طولاً بالزجاج الغامق الذي يعكس صورة الأبنية المقابلة وهي تُشرق بألوان الصبح.
يغادر السوق، يتجه على قدميه صعوداً سالكاً رصيف شارع الشهيد السيد عباس الموسوي، سيتمكن من اتقاء زخات المطر المفاجئة بفضل خيام يوحدها اللون والحجم والنوع، تم تركيبها فوق واجهات المحلات المتساوية في الارتفاع، يصل الى المركز الاستشاري للدراسات الذي تحيط به مجموعة من الأبنية تتميز بغرف استقبال دائرية ذات جدران زجاجية شفافة مطلة على التقاطعات الرئيسية، ولا سيما على الشارع المؤدي إلى مبنى الأمانة العامة في حارة حريك المؤلف من عشرة طوابق مرتفعة فوق أعمدة مكشوفة تشكل الطابق الأرضي الذي يمكن استخدامه موقفا للسيارات أو صالونات مفتوحة لاستقبال الضيوف.
ينهي زكريا عمله في المركز الاستشاري الذي استعاد نشاطه في توثيق الصحف، ويُكمل مشياً، قاصداً ساحة الشورى القديمة المزينة بمشاتل الورد الجوري وشجر جاكرندا الوارف قبل أن يطلب من بائع القهوة المتجول فنجان قهوة يرتشف منه شفة أو شفتين، وهو ينتظر استلام منقوشة بزعتر من فرن الوعد الصادق، المقابل لمبنى الشورى المؤلف من سبعة طوابق، وطابق أرضي متعدد الاستخدام، وبجانبه مبنى يزيده بطابق واحد وآخر بثلاثة، وهذه الأبنية متساوية في ارتفاع طوابقها الأرضية، ومختلفة في ألوانها وواجهاتها الأساسية.
قبل ان يصل زكريا إلى مطبعة قصير التي أسسها قبل أكثر من عشرين سنة في البناية المقابلة لمبنى الانماء مباشرة، يقف بالقرب من حديقة الشهيد صلاح غندور التي تفصل بين شارعين وباتت تشبه جزيرة خضراء، يتبادل أطراف الحديث مع جاره صاحب محل الملبوسات الذي يستعد لفتح محله بعدما أنجز أعمال الديكور. وكان زكريا قد أعاد افتتاح مطبعته قبل ثلاثة أشهر في المكان نفسه، في وقت لا تزال مؤسسة وعد التي وضعت التصاميم وأشرفت على التنفيذ تقوم بأعمال التشطيب النهائية، ويبدو أحد الموظفين التابعين لها يشرف على مجموعة من العمال يقومون بتشجير الزوايا والمفارق، ويتأكدون من تحويل الفراغات العامة الى مساحات خضراء مهما كانت ضيقة ومحدودة.
بالتأكيد، وبعد عشرين شهراً من الآن، ستعود الضاحية أجمل مما كانت عليه قبل عدوان تموز، الأبنية في مكانها لم تتزحزح لا إلى اليمين ولا إلى الشمال، البنايات التي انهارت في ثلاثين يوماً غدراً بصواريخ الطائرات الاسرائيلية شمخت مجدداً، استعادت سكانها واطفالها، أصحاب المحلات التجارية فتحوا أبوابهم وزينوا الواجهات الشفافة بآخر موديلات الموضة، ولا يزال معظمهم يحتج على هروب الحكومة من دفع تعويضاتهم.
عاد الجيران الى ديارهم، وجدوا شققهم كما هي بمساحاتها وشرفاتها، نزل الأطفال إلى مداخل البنايات يلعبون كما كانوا يفعلون ذلك، شغلوا المصعد في الاتجاهين، اكتشف السكان القدامى ان مؤسسة وعد استحدثت طابقاً سفلياً اضافياً غير الذي كان يستخدم كمستودع للمفروشات، وخصصته لاستيعاب غالبية سيارات سكان البناية. عاد الجيران والأهل والأصحاب، وعادت الحياة الى قلب الضاحية وتحديدا إلى المربع الذي يقع بين بناية بنك عودة صعوداً بمحاذاة الاوتوستراد الجديد حتى البنك الفرنسي، ومن هناك شمالاً إلى سنتر داغر ومنه غرباً في خط مستقيم الى طريق المطار.
ما تغير هو وجه الضاحية، ارتدت البنايات ألوان التراب والغيم والضباب، خليط من الجمال العمراني المنسق بين الأبنية والشقق السكنية والأحياء، تتدلى من الشرفات عبارات الشكر والوفاء: لمن وعد فصدق وبنى.
تغير وجه الضاحية، لكن أهلها وسكانها لم يتغيروا أبداً، فهم مع المقاومة وسلاحها، أوفياء للشهداء، وقد عادوا الى حيث كانوا قبل 13 تموز 2006.
لا يمكن استشراف الضاحية بعد عشرين شهراً من اليوم إلا من مكاتب مؤسسة وعد مقابل كنيسة حارة حريك، وبالقرب من مركز البلدية، هناك في الطابق الرابع فتح المهندس عبدالله نور الدين الخرائط والتصاميم، وأجرى مقارنة بين خارطتين جويتين واحدة قبل العدوان والثانية بعد وقف الأعمال الحربية في آب 2006، ثم استدعى من ذاكرة حاسوبه خريطة ثالثة تتوسطها مربعات حمراء متقاربة للدلالة على أكثر من 300 بناية بثلاثين مربعاً سيعاد تعميرها حيث كانت. أما الألوان الخضراء والصفراء فترمز الى الأبنية التي أعيد ترميمها خلال الأشهر الماضية. ثم بدأ يستعرض بشرح مُسهب مواصفات كل بناية بشكل منفصل، مستعيناً برسومات هندسية تظهر واجهة المبنى بوضوح والأقسام الداخلية أيضاً.
بإمكان أي مواطن يملك شقة سكنية أو محلاً تجارياً أن يقصد مؤسسة "وعد"، ويطلع من المسؤولين فيها على التصاميم، وسيتأكد المواطن أن مساحة بيته أو محله أو مستودعه لم تنقص متراً واحداً، بل ازدادت جمالاً وتألقاً. وعندما يطل من الشرفة سيجد الأبنية قد اصطفت منتظمة في صف واحد، بواجهات صخرية أو عادية وتمتع برؤية جمالية لم تبتعد عن معايير الجمال في الستينات ولم تهمل الحداثة الجذابة، وذلك حتى تحافظ على البعد الاجتماعي في العلاقات بين السكان، وعلى الخط الزمني للحياة اليومية، وتعيد تنظيم الشوارع وممرات المشاة وأماكن وقوف السيارات وأعمدة الإنارة والكهرباء والهاتف بما ينسجم مع المخطط التوجيهي للمدينة.
قبل ساعات من المؤتمر الصحافي لاطلاق مشروع وعد كان الحاج حسن الجشي مدير المشروع يتفقد القسم المعماري في مؤسسة وعد، ويناقش مع المهندس برهان قطايا ومجموعة من المهندسيين التفاصيل الدقيقة، يستحضرون أسماء الأبنية والشوارع والألوان والأشكال، ويؤكد الحاج حسن ان كل الاجراءات لإطلاق عملية اعادة اعمار الضاحية تتم وفق القانون، وإذا وجدت مخالفات فتُحال إلى قانون تسوية المخالفات، ويضيف المهندس قطايا بأن الضاحية التي تعرضت منذ الستينات الى ضغط ديمغرافي ستجد نفسها اليوم أمام أكبر عملية تنظيم من نوعها وفقاً لمعايير التخطيط المدني ودون ان تنال هذه العملية من الملكيات الفردية.
بعد عشرين شهراً من الآن ستعود الضاحية كما كانت بشراً وحجراً صفاً واحداً مع المقاومة، وتُجدد صورتها ووعدها بالصمود والتحرير والنصر الأكيد.
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد1216 ـ 25 ايار/مايو2007