ارشيف من : 2005-2008
انتصار أيار في لوحات سبع : أيقونات معلقة على شمس الجنوب

أن نتكلم عن التحرير الأسطوري في أيار 2000، هو أن ندخل في لعبة متشعبة الألوان، بل والنهكات.
كيف نقبض على لذة اللحظة؟ كيف نحفظ الحدث في وعاء زجاجي؟ كيف نمنع عوامل الطبيعة وسطوة الزمن من أن تمحو تلك الأيقونات بطبقة من غبار؟
المشهد الأول: "جيش الاختلال"
ما إن أعلن ايهودا باراك، رئيس وزراء العدو في العام 2000 أنه "سيسحب" جيشه مع الحاشية (العملاء) في شهر تموز، حتى فكرت بشكل احتفالي الخاص، كيف سيكون؟ كيف سأترجمه؟ كيف سأشمت بعدو نموذجي في تدميره، واستثنائي في مقدرته على استدراج الدم والعزف على تقاسيمه؟
الإجابة قاربت البديهة، فأنا أعرف كيف أرسم، وبما أعرف سأحاول أن أشارك به، فكان أن انكببت على صوغ رسوم كاريكاتورية عن الصهاينة وغبائهم، كما عن العملاء وخستهم.
وكان أن جمعت 25 رسماً بالأسود والأبيض، لم تجفّ لتكون حاضرة في تموز، بل شاءت "حنكة" باراك، أن "تباغتنا" في أيار، ليكون الانسحاب أبكر، وخارج عن الروزنامة الموضوعة، روزنامة اشتغل على أساسها الكثيرون من الذين انتظروا طويلاً لإزاحة العبء.
وعليه كتب للرسومات أن تدخل إلى المطبعة في وقت موازٍ لخروج جنود الاحتلال من جنوب لبنان، فكان أن أسميت المجموعة بـ"جيش الاختلال".
المشهد الثاني: تلفزيون المنار
عملي في تلفزيون المنار، وتحديداً في قسم الأخبار رساماً في النشرة الرئيسية، جعلني أقرب الى الحدث وكواليسه.
خطة المنار أيضاً، بنيت على أساس أن يكون الاندحار في تموز فأعدت العدة لهذا التوقيت. لكن الاستثناء ولّد استثناءً فتضافرت السواعد، وشحذت الهمم ليكون تلفزيون المقاومة على قدر المسؤولية المناطة به، فكان أن أخذ قرارا سريعا بالاطلالة الفضائية، مع ما في ذلك من تعقيدات لوجستية.
مع مشهد تحرير الناس للقرى، شبراً بشبر، لا يمكن أن تتحدث عن ضعف في زاوية تصوير، أو خلل في موسيقى مواكبة، مع لحظات أسطورية كتلك، ما عليك سوى أن تستسلم للبديهة، للفطرة، للحس الجمالي الانساني، دون الفذلكات الاكاديمية أو النواهي والقواطع الكلاسيكية.
ونجحت التجربة، وكان العرس الأرضي والفضائي، وكان النصر، على ايقاع فريد في زمانه ومكانه وأبطاله، فشعر كل لبناني وعربي ومسلم وإنسان ينتمي الى فطرة الحرية، أنه جزء من هذه الفسيفساء، مهما كان قريباً منها، أو بعيداً، لحظات خرجت بها الانفعالات الانسانية، بشكلها الخام المنبجس من أصل الجبلّة الانسانية، دون تمييز ديني أو حضاري. لحظات قام فيها البعض باحتضان التلفاز وتقبيله!
المشهد الثالث: معتقل الخيام
ما رأيناه ذلك اليوم، كان أشبه بفيلم أميركي مبني على المبالغة، والاستخفاف بالمشاهد، أجل فتلك الأفلام وحدها، اشتغلت على البطل المخلّص الذي يصل الى سور المعتقل فيحطم ويدمر، ويفجر، ثم يحرر المعتقلين.
هذا ما قدمه الأميركي في حبكاته الدرامية، ومؤثراته المشهدية والصوتية. لكن في الخيام، بدا أن الواقع أكبر من أكبر مخيلة، فأمام فلسفة العزم والغضب والفرح، لم يحتج المخلص حتى الى السلاح، بل هي القبضات تطرق على أبواب الزنازين، أيدٍ تواقة الى الشمس، تمتد من فتحات في الباب المعدني، تلامس مثيلاتها، وفي خلفية المشهد صرخات، ضحكات، تكبيرات، سيمفونية أولى، لا تشبه أحداً، هي الأصل والتالي يقاس عليها.
المشهد الرابع: جزاء العمالة
الاسرائيلي لم يخطر تابعه بتفاصيل الخطة (هذا إذا وُجدت خطة) فقرر الهرب تحت جنح الصدمة والمباغتة، فوقع هو نفسه في أكثر من مطب، وحفرة، ما جعل من الاندحار، مسرحية كوميدية، وركاب الميركافا مهرجين ببذلات كاكية.
هذا ما حصل مع من يعرف "الخطة" وأراد تنفيذها، فكيف مع تابع رخيص، وغبي، أسكرته الوعود بخروج "مشرّف" ورفاهية منتظرة في "أرض الميعاد"؟!
تلك الساعات القليلة، أظهرت لنا العملاء بطبقتيهم: طبقة الأشرار الصغار الذين فضلوا عقوبة سجن مخففة في بلادهم، مذيلة بوصمة العمالة، التي ستدمغ باقي حياتهم. وهؤلاء سلموا أسلحتهم ورفعوا أيديهم مع الرايات البيضاء، دون أن يعاملوا بنسبة واحد على المئة من بطشهم وغدرهم وصلافتهم.
أما طبقة الأشرار الكبار، وهم من الرتباء والضباط وأصحاب الملفات السوداء والحمراء في ميليشيا لحد، فقد احتشدوا في مشهد مذل عند الحدود مع فلسطين، وراحوا يتقاتلون فيما بينهم، للفوز بقصب الفرار، الى حد إطلاق النار على بعضهم البعض، أما الطريف في الأمر فهو حضور انطوان لحد لمواكبة الحاشية وسماع شكواها، فكان أن عاد الى سيارته، تحت وابل الصراخ والشتائم، التي تتهمه بالتقصير وضعف التنظيم، الى أن سجلت عدسات التلفزة، عميلاً يصرخ من كل جوفه، عبارة "تاريخية": "نحنا توقعنا ننكحت، بس بشرف"!
هكذا هم العملاء اذاً، يمكنهم أن يمزجوا بين المذلة والشرف دون عناء يذكر. الأرجح أنها أدبيات قاموس الخيانة.
المشهد الخامس: عندهم وعندنا
أيام قليلة، وبدأت الحملات في كيان العدو على باراك، وضعف الجيش، وقتل الأبناء، وسوء التقدير، والإقرار بقوة الخصم وإيفاء قائده بالوعود التي يقطعها.
أما لبنانياً فقد ظهرت الأصوات النشاز، ووسائل الإعلام الموبوءة فسمعنا جملاً لم نكن لنتوقع صدورها عن طرف داخلي، إلا في سرّه.
البداية كانت في احتضان "قضية" العملاء، وتبرير "هفواتهم" المجبولة بالدم والنار، ومحاولة التأثير على القضاء الذي تهاون في أحكام، الى درجة أن خرج بعض العملاء بعد أسابيع أو أشهر ليعود عميلاً سرياً. أو موظفاً في قطاع من قطاعات الدولة اللبنانية!
إعلامياً، بدت شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال "LBC" وكأنها تبث من جزيرة معزولة، فكان الحديث فقط عن القرى التي تهجر سكانها، حتى خلت من شبابها، دون أي ذكر للأسلوب الحضاري الذي قدمته المقاومة في أدائها، حيث لا انتقام ولا ثأر، هنا أيضاً أذكر غلاف مجلة المسيرة الناطقة باسم القوات اللبنانية، الذي ظهرت عليه امرأة متشحة بالسواد مع عنوان يتحدث عن أجراس الحزن التي قرعت في القرى الآنفة الذكر!
المشهد السادس: الصدى عربياً
وكان أن فتح المنار الخطوط مع المتصلين من كل العالم، فسمعنا أصواتاً وجملاً وصرخات وقصائد، من بلدان ظن البعض، وربما نحن منهم، أن جذوة الثورة قد جنت فيها، لكننا عملياً كنا في حالة اكتشاف متبادل، برغم أننا مكونات لجسم واحد.
في اتصالات الجمهور، أعيد اكتشاف جزء من الجسم، غالباً ما تغيب عنه الأضواء، ألا وهو بلدان المغرب العربي، التي سمعنا منها أجمل التمنيات وأصدق الدعوات، وبكثافة فاقت المتوقع، أما الشارع العربي عموماً، فراح يحتفي بأي لبناني زائر أو مقيم، دون الأخذ بعين الاعتبار أنه قد يكون من أصحاب وجهات النظر التي تردّ اندحار العدو، إلى اجراء تكتيكي اختياري، دون أي محرضات خارجية.
بعض هؤلاء تبدلت وجهة نظرهم للأمور بعد أن لمسوا لذة النصر، والاحتفاء بهم كأبناء لوطن دحر عدواً كـ"اسرائيل" بكامل جبروتها.
المشهد السابع: البناء والزرع
ما هي إلا أسابيع حتى كانت الأحلام قد تبلورت على الأرض: هنا سأعيد بناء المنزل، هنا سأرفع سوراً للحديقة، وهنا سأزرع شجرة زيتون.
على مال التعويض، أضيف ما خبئ هنا وهناك، فكان أن شيدت بيوت كبيرة، دون أي التفاتة تذكر، لفكرة أن يعود الصهيوني يوماً ليدمر، ثقة لا يمكن أن تزرعها في رأس متردد أو مشكك، فالثقة تنمو ببطء، ترويها التجارب، وتقلمها السواعد السمراء.
وكان أن انصهر الناس سريعاً بالمكان، فعادوا كما كل سكان القرى، إلى عمل يومي، وطقوس للشتاء، وشروط للعقد، ومساومة على الشراء، وعرس على سطح منزل، وعزاء في حسينية، ومنافسة بين هذه العائلة وتلك، ومشاركة على الدعك في قدر الهريسة..
سنوات سبع مرّت، نلتفت لبرهة، نبتسم، ونتابع المسير.
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ العدد1216 ـ 25 ايار/مايو2007