ارشيف من : 2005-2008
من البحر إلى رؤوس الجبال : خط المواجهة.. خط المقاومة

البحر.. من البحر كانت بداية الجولة، حيث الصياد والزورق في لقاء مع الأمواج التي كانت ترتطم عنوة بحديد البوارج الإسرائيلية الغازية.. ها هي تتراقص عزاً وحرية تعانق بزبدها صخور الناقورة.
البلدة الساحلية المقاومة التي تبدأ مع حدودها حدود الوطن من الجنوب، لطالما شهد معبرها لقاءات استقبال مع الأسرى المحررين وأجساد الشهداء خلال عمليات التبادل مع قوات الاحتلال.
العدو متربص على تلة اللبونة المشرفة عليها، لكن ذلك لم يحل دون ممارسة الحياة الطبيعية، فحماة الديار ما زالوا على عهدهم.. الناقورة دفعت ضريبة خياراتها الوطنية، فقدمت الشهداء من أبنائها، وتهدم العديد من المنازل السكنية، وتضرر عدد آخر.
البعد عن أقرب المدن الجنوبية (صور) وغياب فرص العمل كلياً فرض على العديد من أهلها المغادرة في فصل الشتاء، إلا أن قاطنيها يشكلون عصب الحياة الهادئة فيها، وجلّهم يعتمد على صيد الأسماك لتحصيل لقمة العيش، وهذا السبيل كان محفوفاً بالمخاطر والحصار إبان الاحتلال، أما اليوم فالصيادون لم يأبهوا بالزوارق الإسرائيلية التي تجوب الشاطئ الفلسطيني المحتل قبالتهم، وقد ساهمت "جهاد البناء" في تشييد تعاونية للأسماك في البلدة بعد عام على التحرير.
تركنا البلدة واتجهنا شرقاً نحو البلدات الحدودية، دخلنا جارة الناقورة "علما الشعب".. الحركة النشطة في البلدة تشير إلى الاستقرار الذي تعيشه البلدة ذات الطابع المسيحي.
الزراعة هنا هي مصدر العيش مع ميل إلى قليل إلى صيد الأسماك، واللافت بين علما والناقورة وجود العلاقات الوثيقة والطيبة التي تربط أهالي البلدتين.
المحطة الثالثة كانت بلدة الضهيرة.. الإهمال الرسمي كان ظاهراً بوضوح على الطريق الرئيس التي باتت شبيهة بالأراضي الزراعية المحاذية لها.. أيضاً زراعة التبغ هي السبيل شبه الوحيد لتأمين لقمة العيش هنا، إضافة إلى رعي الماشية. حاول العدو اقتطاع أراضٍ عند تلالها الجنوبية التي كانت إبان الاحتلال مركزاً لمرابض المدفعية، وبعد رفض فريق الترسيم اللبناني اضطر العدو للتراجع خلف هذه التلال، والتعويض عن الموقع بعمود حديدي طوله مئة متر، مثبت عليه أجهزة التصوير والتجسس والتنصت.. وإن دلت هذه الصورة على شيء، فإنها تدل على كسر الهيبة الإسرائيلية المصطنعة وإرادة التحدي والتشبث بالأرض.
لم تكن بلدة يارين المجاورة أفضل حالاً لناحية الإهمال الرسمي، فالطرق أيضاً تكاد تصلح للزراعة، وربما لم تشهد هذه الطرق عملية تعبيد منذ سنوات. البلدة لها تاريخ في الجهاد ومواجهة الاحتلال، وقدمت الشهداء على طريق الحرية. أهالي يارين ينعمون كغيرهم من أهالي القرى الحدودية بحرية لطالما كانت حلماً على امتداد أعوام الاحتلال السابقة، واستصلاح أراضٍ زراعية قرب السياج الحدودي هو خير دليل على ذلك. إشارة إلى أن البلدة شهدت أول عرس في الساحة العامة في القرى الحدودية بعد أيام على التحرير احتفاءً بالاقتران والنصر معاً.
ومن يارين إلى البستان والزلوطية ومروحين مشاهد حياة قروية بامتياز، لم تغير في طبيعتها مواقع الاحتلال القريبة وحركة الدوريات الإسرائيلية الدائمة، فالأراضي الزراعية التي تشكل المقصد اليومي للمزارعين تشهد حياة ونشاطاً مستمراً منذ التحرير الذي كان نقطة التحول في عودة المزارعين لاستئناف العمل للتعويض عن سنوات الاحتلال.
من مروحين المقابلة لمعبر ومستعمرة زرعيت إلى رامية صودف تشييد منزل وحيد في الأراضي القليلة المحررة من قرية طربيخا، إحدى القرى السبع التي تقع على أرضها مستوطنة زرعيت.
رامية المزهوة بالانتصار والمكللة بدماء شهداء التحرير، تواصل النهضة العمرانية وإعادة إعمار ما هدمه العدوان الأخير، ويعمل أهلها على تجميل بعض طرقها. هذه البلدة المشهورة بالمساحة الواسعة لسهولها المزروعة بالتبغ الذي يزين بلونه الأخضر محيط البلدة، تقف شتلة التبغ فيها شامخة كشبابها في وجه موقع رامية المقابل والمتربص بكل أحيائها.
من لم يسمع بخلة وردة وعيتا الشعب المحطة التالية من الجولة.. خلية نحل تسعى في معظم أحيائها المدمرة.. أينما كانت الوجهة فإن إعادة الإعمار واستعادة الحياة الطبيعية بعد المواجهات والتدمير الهائل الذي تعرضت له البلدة إبان العدوان الأخير هي السمة الأساسية، ومحو آثار الاعتداءات جارٍ بوتيرة متسارعة من خلال ورشة رفع الأنقاض وإزالة ركام الدمار. وبموازاة ذلك فإن البلدة تشكل عصباً أساسياً في المنطقة في زراعة التبغ، كجارتها بلدة رميش الغنية بأراضيها الزراعية الواسعة وبكثافة الحضور السكاني، وما زالت تشكل بركة المياه القديمة في وسط الساحة المتنفس للمزارعين في ظل غياب امكانية حفر آبار ارتوازية نتيجة افتقار جغرافية المنطقة للمياه الجوفية.
من رميش إلى يارون الطريق دونها معاناة بسبب طولها وكثرة الحفر.. أول ما تراه ثلاث رايات ترفرف قبالة موقع الحدب، وراية رابعة تقع إلى جانبه. وبقدر حالة الدمار في منازلها تشهد حركة إعمار وإعادة ترميم للمنازل المتضررة.
وليارون نصيب من التضحية بشبابها الذين ارتفعت صورهم على مداخل البلدة وأحيائها وفاءً لهم.
نتوجه صعوداً إلى مارون الراس التي شهدت أولى المواجهات البرية في عدوان تموز.. نفض غبار العدوان ما زال قائماً، ربما لأن جرافات الدولة لم تصل بعد. أهلها عادوا على أطلال منازلهم وبقوا بما تيسر منها.. بعض المنازل بدأ إعمارها، والبعض الآخر ينتظر المستحقات. أما الطرق التي محت معالمها الدبابات الإسرائيلية فما زالت على حالها.. ما زالت مارون تودع بعضاً من شبابها الذين قضوا في المواجهات، وكان آخرهم الثلاثاء بعدما كان مفقوداً. مارون الراس تستقبل عيد الانتصار برأسها المرفوع عزاً.
نميل شمالاً.. نطل على عاصمة المقاومة والتحرير بنت جبيل المدمرة.. احتفال بعيد النصر فوق الأطلال أحياناً، ومع الإعمار والبناء حيناً.. السوق الغائبة بحجارة محلاتها المدمرة حاضرة بروادها وزينتها المعهودة مع كل ذكرى للانتصار.. كيف لا والعيد هذه المرة عيدان للنصر المكرر! ورشة إعمار كبيرة تشهدها المدينة التي أصبحت عنواناً للشهادة والتضحية والصمود والانتصار، ويكفي المدينة فخراً أنها كانت لعنة على الجيش الإسرائيلي كما قال قادة هذا الجيش.
نكمل المسير نحو عيترون.. المشهد يتكرر.. دمار وإعمار وحركة سكانية عامرة بأهلها العائدين وتحدٍ لإرادة العدو أينما توجهت.. إلى بليدا وميس الجبل وحولا ومركبا وعديسة وكفر كلا والخيام، كل هذه القرى ستكون اليوم على موعد مع ذكرى ولادة حياة جديدة شكلها التحرير المظفر قبل سبع سنوات.
تحقيق: علي شعيب
الانتقاد / العدد1216 ـ 25 ايار:مايو2007