ارشيف من : 2005-2008

خيمة التحرير أيار 2000م

خيمة التحرير أيار 2000م

حدث هذا ذات مساء بعد أيار التحرير بأشهر قليلة، حيث كنت أعبر من بلدتي التي كان نصفها تحت الاحتلال الصهيوني، إلى النصف الآخر الذي حُرّر، المسافة بين النصفين لا تتجاوز الثلاثين ثانية، لكنها ثوانٍ توقفت عقارب الزمن فيها ثلاثون عاماً كي تعيد ساعة المقاومة وشهدائها دورة الحياة اليها من جديد.

في مسافة النصفين تلك كان دليلي صديق مقاوم من الجيل الذي عشق التراب باكراً، فصادق البندقية، واتخذ من المقاومين صحبة له، حتى بلغ عمراً فارقه فيه الكثير منهم شهداء بررة دفاعاً عن الأرض والعرض والوطن.

عندما بلغنا النصف المحرر من البلدة، توقف دليلي المقاوم شاخصاً ببصره مسترجعاً أياماً خلت عبر فيها المقاومون هذه التلال وتلك الأودية تحت مرمى نيران المواقع الصهيونية،  ليزرعوا عبوة هنا أو يهاجموا موقعاً هناك، وبينهما كانوا يعودون يحملون الحسنيين، نصراً من الله، وبعضاً من الشهداء، وراح صديقي يقصّ عليّ أسماء وسير الذين استشهدوا، ومكان استشهادهم، ففي ظلال تلك الزيتونة سجي شهيد وتحت تلك الصخرة حنّى شهيد بدمه التراب، وبين هذا السفح وذاك السفح زرع مقاومون أجسادهم رايات عزٍ وانتصار، كثيرة هي قصص الشهداء الذين فتحوا باب المقاومة منذ الاجتياح الصهيوني للبنان العام 82 مروراً بالتحرير الكبير في أيار 2000، وصولاً إلى ملحمة تموز 2006، حيث حققت المقاومة نصراً وعد الله به عباده المخلصين، ومن بين هذه التواريخ ثمة علماء وقادة كثر أسرجوا دمهم بيرقاً للمقاومة والتحرير، ابتداءً من الشيخ راغب حرب وصولاً إلى السيد عباس الموسوي، تحفُّ بهما كوكبة من الاستشهاديين والشهداء العظام.

من الشيخ راغب حرب..

في الحديث عن الشهداء والنصر، لا بد لنا بادئ ذي بدء من مقاربة الينابيع الدينية الأصيلة الذي استلهمها المقاومون من رسالة الإسلام العظيم، وينابيع الشهادة التي ارتووا بها من ضفاف كربلاء، ولعل الشيخ راغب حرب أول من أشعل شرارة الوعي في وجه الاحتلال الصهيوني، وذلك عندما عاد من زيارة له إلى طهران العام 82 ليجد الصهاينة وهم يحاولون جعل احتلالهم ووجودهم في القرى أمراً معاشاً بين الناس، فوقف في محراب مسجد جبشيت محذراً من وضع اليد بيد العدو، مهاجماً تلك الحفنة من العملاء بالقول: "هؤلاء العملاء تبلغ بهم الحقارة حداً أنه لا كرامة بهم، لأن الذي يجعل من يده يداً لعدوه على أبيه وأمه، هذا لا كرامة له، ولا شرف، ولا دين، ولا انسانية، ولا شهامة، وهؤلاء ليسوا منّا في شيء".. ثم خرج بعد الصلاة إلى ساحة المواجهة مقرناً قوله بالفعل، ووقف في وجه الدبابات الإسرائيلية وحمل حجراً ورشقها، فعظم الأمر في عيون الناس فراحوا خلف شيخهم يرمون الصهاينة بأحجار الرفض لهم، فاعتقل الشيخ راغب مع العشرات منهم، ومع عشرات الآلاف من الشباب في القرى في محاولة لتخويف الناس وإسكاتها، عندها أطلق الشيخ راغب سهامه الى صدور المحتلين بقوله: "يجب أن يفهموا أنهم إذا أرادوا أن يمارسوا الاعتقال وسيلة لسكوتنا على احتلالهم، فعليهم أن يفتتحوا آلاف الآلاف من المعتقلات، عليهم أن يجهزوا للتحقيق مع الأجنة في بطون نسائنا، لأنها بالتأكيد ستولد، وسيرضع أطفالنا بغض اليهود وكرههم".

في مواجهته تلك عمل الشيخ راغب على تأصيل خطابه من ينابيع كربلاء الإمام الحسين (ع) متخذاً منه القدوة حيث رفض مبايعة الحاكم الفاسد الفاجر المتمثل بـ"يزيد بن معاوية"، وقدم دمه ودم الصفوة من ذرية النبي محمد (ص)، والخيرة من الصحب في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ليمتد الدم من كربلاء الى ثورة الإمام الخميني التي طالما اتخذها الشيخ راغب عنواناً معاصراً لإمكانية هزيمة المحتل الظالم مهما بلغت غطرسته وقوته، ودعا الناس الى عشق عبد الله الخميني (قده) ـ كما كان يحب تسميته ـ الذي هزم بعزيمة الإيمان امبراطورية الصعلوك الاميركي شاه ايران.

الى الشهيد عباس الموسوي

شكل الشيخ راغب خزاناً ثورياً راح يمتد في عروق القرى وفوق المآذن، فاغتال الصهاينة جسده في 16 شباط 84، ليشعل دمه الأرض تحت الاحتلال، وجاء من أقصى البقاع سيد مهيب اسمه عباس الموسوي، امتشق بندقية شيخ الشهداء وانطلق باسم الله ليؤسس مع إخوة له البنية التنظيمية الأولى للمقاومة الإسلامية تزامناً مع إعلان الرسالة المفتوحة لحزب الله العام 1985.

عمل السيد عباس الموسوي على الانتقال بالمشروع المقاوم الى مرحلة العمليات النوعية، فاتخذ منطقة جبل عامل مسكناً ومقراً له ولعائلته، لتبدأ مرحلة نوعية للمقاومة كانت فاتحتها عملية الأسيرين في كونين العام 1985، لتكر بعدها وخلالها عمليات اقتحام المواقع المحصنة للصهاينة وتدميرها، حيث كان للموقع القيادي والإشرافي لسماحة السيد عباس دوره الريادي في شحذ عزيمة المقاومين، الذين عشقوا ذلك السيد الأسمى العطوف، فبادلهم العشق عشقاً لهم وللتراب الذي ضُمخ بدماء الشهداء، أولئك الشهداء الذين كانوا عين السيد وقلبه النابض وأمانة الله والأنبياء عنده، ولطالما دعا الله عز وجل أن يرزقه شهادة يتفتت فيها جسده في سبيله، فاستجاب الله لمناجاته ليرزقه شهادة عظيمة مع زوجته الفاضلة أم ياسر وطفلهما حسين وذلك بعد حفل تأبين الشيخ راغب حرب في 16 شباط 1992.

صافي حطين المقاومة والشهداء..

شكلت واقعة استشهاد السيد عباس الموسوي(رض) وهو في موقع الأمين العام لحزب الله، دافعاً إضافياً في جسد المقاومين الذين كانوا يتخذون من  فعل الشهادة سراجاً لهم في طريق ذات الشوكة، وتمثل هذا الفعل في الصبر على المعاناة والعيش في ظل السماء فوق القمم العالية في جبل صافي أحد قمم جبل عامل، حيث شكل ذلك الجبل وعلى مدار خمسة عشر عاماً من عمل المقاومة مسكناً وملاذاً وحصناً للمقاومة ومشروعها الحضاري، وتكاد لا تجد صخرة أو منحدراً أو مغارة أو شجرة إلا وتروي لك قصة شهيد أو جريح أو عاشق لله أمضى زهرة عمره ملتحفاً الغيوم غطاءً والتراب وسادة وألحان الطير لغة، ونجوم السماء سلوه وسمّاراً في الليالي الحالكة.

من قمة جبل صافي بدأت تلوح في الأفق قمم الانتصار، فجاء عدوانا تموز 1993 ونيسان 1996 على لبنان، لتقدم المقاومة معادلة أثبتت فيها قدرة على المواجهة الشاملة والمفتوحة مع ترسانة الحرب الصهيونية مجهضة الهدف الإسرائيلي الرامي لضرب المقاومة وهيبتها، لكن المقاومة الإسلامية وبفعل عطاء الشهداء واصلت العمل على رص صفوفها لتبلغ النصر العظيم في دحر الاحتلال الصهيوني عن الجزء الأكبر من تراب لبنان في أيار 2000م.

دم الشهداء بوصلة المقاومة..

هذا التحرير المبارك ما كان ليتم لولا صلابة وإيمان المقاومين وعطاء وتضحيات الشهداء وعوائلهم، هذه الشهادة أعطت للموت فعل الحياة، وللحياة قيمة وعزة في فعل الجهاد والاستشهاد، حيث البوصلة كانت وما زالت نحو مشروع واحد هو مقارعة الظالم والمعتدي الصهيوني الذي لا يقيم لأحد قيمة أو كرامة، لذا جاء فعل الشهادة ليحطم فعل الظلم هذا، وينتزع منه الحق في حياة كريمة شريفة يسودها العدل والمساواة في ظل رسالة السماح وسماحة الإسلام وأصالة الدين الحنيف.

لقد عاش الشهداء عبادة في عين الله، وانطلقوا في سبيل الله، وصبروا على البلاء والجوع والعطش والظلم مرضاة لله، واتخذوا من كربلاء الإمام الحسين(ع) موقفاً مخلصاً لله، وقرأوا في كتاب الله قوله تعالى: "وما النصر إلا من عند الله"، "وإن تنصروا الله فلا غالب لكم".

من هذا التسليم لله كانت بداية المقاومة الإسلامية في لبنان، حيث يقول سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في حفل تأبين السيد الشهيد عباس الموسوي "عندما بدأنا مع السيد الشهيد (رض) طريق المقاومة الإسلامية وكنّا قلة، بعضهم وصف طريقنا بطريق الانتحار، ولكننا كنا نرى فيه طريق الشهادة والانتصار".

هذا هو كتاب المقاومة والشهداء الذي تعلمنا منه قيمة أن تعيش عزيزاً حراً كريماً مخلصاً لله القوي، وهو كتاب مضمخ بدم الشهداء الذين كان واحداً منهم صديقي ودليلي الذي بدأت فيه مقالتي هذه الحاج خليل شهاب الذي روى بدمه الطاهر آخر الغايات إبان معركة الوعد الصادق في تموز 2006، حيث ارتفع للموكب السماوي شهيداً عظيماً ليلتحق بإخوة له ورفاق درب لطالما عبر عن شوقه لهم.

طوبى للشهداء من الشهيد الأول للمقاومة الى آخر شهداء القافلة، الذين جعلوا للبنان وجهاً آخر ولغة أخرى شامخة كدرّة السماء، منيعة كقمم جبل صافي.

حسان بدير

الانتقاد/ العدد 1216 ـ 25 ايار/مايو2007

2007-05-25