ارشيف من : 2005-2008
انتصار عام 2000 في عيون انتصار عام 2006 محطة أولى في مسار تكاملي واحد

يفترض السؤال ضمناً علاقة عضوية بين ما نحن عليه، وما نحن فيه اليوم، وحدث الانتصار. بكلمة أخرى، ليس حدث الانتصار حدثاً معزولاً في ذاته، وفي سياقه، وفي تداعياته ونتائجه، وبيان ذلك يتضح من التالي:
أولاً: الحدث في حد ذاته جاء خارج المنطق المفروض على المنطقة منذ ايجاد الكيان الاسرائيلي. هذا الكيان هو بالتعريف كائن غريب، وكأي كائن غريب لا يستطيع الاستمرار إلا بالقوة الغاشمة، وبالغلبة، الغلبة ليست عنصراً مقوّماً لوجوده، وانما لاستمراره، بدون مفهوم الغلبة لا يمكن أن يستمر، كل حروب هذا الكيان كانت تستهدف صناعة أسطورة القوة التي لا تقهر، ما لا يُبقي للخصوم أو الأعداء، إلا الاستسلام لنفس وجود هذا الكيان، والانصياع لمنطق التسوية المراوغ، نقول مراوغ لأن لا تسوية فعلية بين القوي والضعيف، التسوية هنا تزويق لفظي للاستسلام، التسويات الفعلية تكون بين الأنداد ليس إلا.
من هنا، من لوازم استمرار هذا الكيان تحويل ما حوله إلى أتباع، لأن كياناً كالكيان الإسرائيلي لا يقبل حتى وجود الأشباه، فكيف بالأحرى الأمثال، والتسوية ليست إلا الآلية الضرورية لصناعة الأتباع، فبعد الانصياع ولو الاضطراري يأتي الاتباع، فسيادة منطق التسوية ليست هي الرد التاريخي ولا الطبيعي على منطق الاحتلال أو الاستعمار أو العدوان، أو كل هذه مجتمعة، منطق التسوية هو منطق التعامل الايجابي ومن موقع الضعيف مع كل هذه مجتمعة، ولذا هو منطق الشواذ التاريخي، لا منطق سنن التاريخ، وبناءً عليه، فمنظومة خيار التسوية هي منظومة حماية سياسية لهذا الكيان، لأصل وجوده، ما دامت قد نقلت علاقتها معه من علاقة بين نقيضين إلى علاقة بين واقعين، فالذي يقبل بمنطق التسوية يعني أنه اقتنع بأن عدوه لا يغلب، ويعني أيضاً، وهذا لا يقوله هؤلاء عادة، أن نفوسهم وإرادتهم قد بلغ منها الوهن والعجز مبلغه، والأخطر من هذا أو ذاك، أن هؤلاء لضعف نفوسهم وتفسخ إرادتهم يهربون إلى التسويات مع عدوهم الوجودي، لحماية مواقعهم السلطوية، ومشاريعهم الاقتصادية. فالتسوية تصبح نوعاً من الاستنجاد بالعدو للاستمرار في السلطة، وبهذا المعنى، هي تصبح ضداً تماماً مع الناس، وحتى يضمن هدوء الناس يصبح مطلوباً العمل الحثيث على توهين الأمة، وإشاعة ثقافة الدعة والاستسلام، ومنطق حياة الدنيا، أي الانحدار بالانسان إلى المستوى البهيمي، فلا يعود للكرامات من معنى، ولا عزة النفس من معنى، وكل شيء يجب أن يخضع لمعايير الربح والخسارة والجدوى الاقتصادية، لا لمعايير الربح والخسارة والجدوى التاريخية والحضارية والإنسانية.
بهذا المعنى، فالمعركة مع العدو الإسرائيلي، الأميركي، سمّه ما شئت، هي معركة متعددة الجوانب والأبعاد، لكن من الواضح أنها معركة الانسان، العدو إذ يحول نفسه إلى ظاهرة لا تقهر، يريد تحويل إنساننا الى ظاهرة تقهر، وإلا ما استقام له ما يريد، فكل قاهر يحتاج إلى مقهور، وإلا ما كان قاهراً، ولتدوم قاهريته عليه إدامة قاهريتنا. وهذا ما يفسر إسرافه في القتل والبطش، ليس فقط للترهيب والردع، وإنما لشل الارادات وتوهين النفوس، وهذا لا يستقيم الا اذا شاعت فلسفة حب الدنيا سلباً، ثمة فارق كبير بين حب الحياة، وحب الدنيا، بمعنى الاخلاد لها، والركون اليها، وتطبيع أفق الحياة الأرحب الذي يشمل هذه الحياة، وما يعدها.
ثانياً: ما تقدم، يشكل موجزة مكثفة عن الاطار الأوسع لفعل وجود الكيان الإسرائيلي بالمعنى الجيو ـ سياسي، والجيو ـ استراتيجي، والجيو ـ ثقافي أيضاً.
في هذا الإطار، يجب قراءة انتصار عام 2000.
انتصار عام 2000 قال بالفم الملآن.
ـ ان العدو الاسرائيلي ليس قوة لا تقهر، هذه مجرد أسطورة، خرافة، هي من قبيل سحر سحرة فرعون ليس إلا.
ولازم ما تقدم، أن هذا العدو قابل للانكسار قابل للانهزام.
ـ اذا كان خيار التسوية هو خيار المضطرين، أو خيار المقتنعين، أن لا سبيل سواه لمعالجة قضية الصراع مع العدو الاسرائيلي، جاء خيار المقاومة ليؤكد خواء هذا المنطق، وليقول، ان المشكلة ليست في أن العدو لا ينهزم، وانما في الذين لا يواجهونه، بل لا يريدون مواجهته كما يجب.
بكلمة موجزة، انتصار 2000 جاء ليعيد استجابة الأمة في مواجهة العدو الاسرائيلي إلى المسار التاريخي الصحيح، وكجزء لا يتجزأ من منطق سنن الصراع التاريخي بين الحق والباطل. بالانتصار انقشع كثير من الغبار، زالت غشاوات سميكة، ترنحت أطروحات الهزيمة باسم منطق الواقعية السياسية، اهتزت استراتيجيا أسس وجود الكيان، وشبكة أمانه في الأنظمة الخانعة، وقرعت آذان شعوب المنطقة بقوة لتستيقظ من حالة سباتها المغنطيسي، وليعود اليها انتباهها.
ساعد على ذلك عوامل شتى، لكن يبقى أبرزها، سقوط خيار التسوية إلى الحضيض، انتفاضة الشعب الفلسطيني.. الخ.
انتصار المقاومة عام 2000 أعاد الاعتبار لثقافة الحياة من مدخل آخر، مدخل: احرصوا على الموت توهب لكم الحياة، قوة المقاومة في الأمة هي عنوان قوة الحياة فيها، بقدر ما تضعف هذه القوة تضعف قوة الحياة، الأمة بلا مقاومة تتناوشها الأيدي من كل حدب وصوب، تصبح فريسة سهلة للأعداء، تماماً كالجسد الذي يفقد قدرته على مقاومة الجراثيم والأمراض، يكفي عضة بعوضة لتقتله، هذه هي في الأصل وظيفة الكيان الاسرائيلي، إحالة جسد الأمة إلى جسد ميت، الحياة فيه شكل حياة لكن بلا روح ولا عقل ولا قلب، فعل المقاومة نفسه في الروح والعقل والقلب معاً، فكلما قووا قويت، وكلما قويت قووا معها.
من هنا، وفي العام 2000 تحديداً وضعت المداميك الأولى لتحالف عدوان تموز، وإن من ضمن إطار استراتيجي شامل: تحالف: تحال المتضررين: العدو الاسرائيلي، الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا.. ومنظومة عرب التسوية وأدواتهم في لبنان. الجميع في مركب واحد وعدوهم: المقاومة.
عدوان تموز بما هو التعبير العنفي الأقصى لكل مسار تطورات الوضع اللبناني، منذ صدور القرار 1559 وحتى الساعة، لم يكن إلا محاولة لاحتواء الترددات الاستراتيجية لانتصار 2000، من ضمن هجوم أشمل وأوسع على المنطقة، لكن ما فات هؤلاء جميعاً، ان المقاومة في لبنان لم تعد يتيمة، وأن منطق الحياة والتاريخ يقول: كل عدوان أو احتلال أو قهر يولد مقاومته، وبذلك مقاومات تمتد من افغانستان إلى العراق فلبنان وفلسطين والصومال، من دون أن ننسى دول المقاومة والممانعة في المنطقة، لكن، شاء الله أيضاً، أن ينهزم الهجوم الشامل لمجموع الأعداء في تموز، وبدلاً من أن يتم احتواء الترددات الاستراتيجية لانتصار عام 2000، فاذ بهؤلاء مشغولين باحتواء تداعيات وانعكاسات ونتائج هزيمتهم في عدوان تموز، وهي ولا شك، أصعب وأدهى، ووقعها عليهم أمرّ وأقسى.
فليس العدو الاسرائيلي من انهزم فقط، وإنما كل من دعمه وآزره وشجعه وسانده ووقف إلى جنبه بالكلمة والصورة.
الهزيمة أشمل بالمعنى الاستراتيجي والجيوـ سياسي: منطق المقاومة تجذر أكثر، أثبت جدواه على نحوٍ قاطع، ليست "اسرائيل" وحدها القابلة للهزيمة، بل ومعها معلمتها الكبرى، وشيطانها الأكبر، الولايات المتحدة. إن انتصار المقاومة في عدوان تموز، وعلى أعداء بهذا الحجم، وبهذه القوة، وبهذا المدى والاتساع، كان تعبيراً عن الدرجة التي وصلت اليها قوة الحياة في روح هذه الأمة، قوة الحياة العزيزة والحرة والكريمة، وبهذا المعنى، فانتصار تموز هو درجة متقدمة من كمال انتصار عام 2000، لقد دخل لبنان والمنطقة في مسار تكاملي من الانتصارات، وهو مسار كل محطة منه ستعكس محطة من الصراع مع العدو الأميركي ـ الاسرائيلي ومشروعه الكولوينيالي في المنطقة، ومع كل انتصار سيقابله انكسار أكبر لهذا المشروع، فخط المقاومة إلى تصاعد، وخط المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي إلى تنازل، فالمقاومة اليوم هي علامة نهوض الأمة، وعلامة قوة الحياة فيها، وبقدر ما تشتد قوة المقاومة فينا، تشتد قوة الحياة فينا، حياة سليمة من الأوبئة والأمراض على أنواعها.
مصطفى الحاج علي
الانتقاد/ العدد1216 ـ 25 ايار/مايو2007