ارشيف من : 2005-2008

الوثائقي "صُور" للمخرجة راغدة سكاف

الوثائقي "صُور" للمخرجة راغدة سكاف

في ذكرى عدوان نيسان 1996 عرضت شاشة "الأو.تي.في" فيلم "صور"، وهو وثائقي للمخرجة اللبنانية راغدة سكاف، فكان العمل الذي قارب الأربعين دقيقة، أشبه ما يكون بالوثيقة المكتملة الشروط لإدانة الهمجية الصهيونية، وذلك من خلال ترابط المشاهد والشهادات بين نيسان 1996 وتموز 2006.
الرصد بعين مغايرة
بعد مشروع تخرّجها الذي أسمته راغدة سكاف "صوَر مش من ورق"، وهو فيلم يعالج اشكالية مطروحة عالمياً حول دور الصحافي في الميدان، هل هو محايد، أم انسان عليه المشاركة والانقاذ، وذلك على خلفية مجزرة المنصوري، بعد هذا الفيلم أخرجت سكاف أفلاماً وثائقية عدة، كان آخر فيلم هو "صوَر" الذي ابتدأت مشاهده الأولى مع ربط مباشر بين رشا الفتاة التي مثلت دور منار (الطفلة التي نجت من مجزرة الاسعاف وراحت تندب عائلتها وجيرانها) وبين رشا اليوم التي تحولت إلى صحافية تسجل بعدستها الأحداث، وتحديداً حرب تموز 2006 حيث الرصد بعين مغايرة للمشهد العام. وهكذا ومن خلال صوت رشا أبو جهجه يتم سرد الحكاية وربط التواريخ والأرقام، مع شهادات مصورة للصحافية نجلاء أبو جهجه (مراسلة رويترز) أثناء عدوان نيسان 1996، والصحافي عباس ناصر (مراسل الجزيرة وأحد الأوائل الذين شهدوا مجزرة قانا الثانية في العام 2006) والصحافية منى صليبا (مراسلة المؤسسة اللبنانية للإرسال التي غطت القصف الإسرائيلي لموكب السيارات من مرجعيون إلى حاصبيا).
بين الشهادات الثلاث نشعر بالنبض ذاته، بالنبرة عينها، بالاجابات نفسها وكذلك الأسئلة، فنجلاء تحدثت عن قصف سيارة الإسعاف ومن فيها من أطفال ونساء، أما عباس فتطرق إلى قصة الطفلة زينب شلهوب وطريقة استشهادها في قانا، في حين أعطت منى شهادة ميدانية لاستهداف الطائرات لسيارة الصليب الأحمر واستشهاد أحد المتطوعين.
هنا نكتشف أن المخرجة سكاف أرادت التدقيق في آلية التفكير الإسرائيلية، حيث القتل الخام، الذي لا يحتاج إلى تبرير أو منطق ولو شكلانياً، فالصهيوني يقتل الصحافي، أو المسعف أو الطفل، كما يقصف المدرسة والبيت والدراجة، هكذا دون أي مسوغ لفظي أو حتى نفي كاذب.
الواضح من فيلم "صُوَر" أنه لم يدخل إلى الأحداث من أبوابها المعروفة، فالاعلام العالمي غطى بمعظمه الحرب ولو مع كثير من المونتاج وإعادة التركيب.
تعمدت راغدة سكاف أن تأخذ المشاهد بيده إلى النقطة المركزية، حيث الإجرام، إجرام ولا شيء يخالطه.
شهادة نجلاء كانت في مكان معتم ومترامي الأبعاد، أما شهادة عباس فكانت ميدانية من بلدة قانا، وكانت شهادة منى من على مقعد خشبي في غرفة مظلمة أمامها شاشة كبيرة تُسرد معها الأحداث والصور.
حضرت رشا أبو جهجه في جل المشاهد فكانت الصحافية التي تصب الكلمات والصور في جعبتها.
في مرحلة أخرى من الوثائقي "صُوَر" تجول رشا في الضاحية الجنوبية وتحديداً في ما يعرف بالمربع الأمني، فلم ترَ سوى الأبنية المدمرة ولم تشمّ سوى رائحة الدخان والبارود، لكن المخرجة سكاف أبدعت في تصوير الغرف المهدمة الخالية إلا من كنبة محطمة هنا وتلفاز مكسور هناك، حضر عنصر الإبداع في الأصوات التي أعادت تقديمها سكاف في تلك الغرف فكانت أشبه بالأرواح التي تطوف حول أماكنها الأولى، فهنا أم تنادي ابنتها لترد على الهاتف، وهناك صوت لممثلين في فيلم عربي، وبينهما صوت لأب يلعّب ابنته.
الفاصل الأسود
في سياق الفيلم تتوقف عدسة راغدة سكاف عن تسجيل ما تراه، بل لا نرى على الشاشة سوى اللون الأسود ولمدة تفوق الدقيقة أو الدقيقتين، إنما على خلفية من الصراخ والبكاء وأبواق الإسعافات، في هذه اللحظات تعطي سكاف للمشاهد مساحة لاستراحة العين، على أن يبدأ تعب المخيلة في حياكة الصور، ورسم الملامح، مرة ثانية يحضر الأسود الطويل مع صوت للصحافية رشا.
من المشاهد المستسلمة للصمت هناك لقطة طويلة لامرأة جنوبية تمشي بين العشب ويوازيها في الطرف الآخر من الصورة شجرة، هذا التوازن تفقده العين مع تقدم المرأة خطوة خطوة إلى أن تختفي خلف التلة.
غداً سأصبح مقاوماً
أحد الأطفال الناجين من مجزرة قانا الثانية يتحدث إلى الكاميرا بعين واثقة وصوت ملؤه التعب، فأخته زينب استشهدت وهو يريد أن يصبح مقاوماً يمنع الإسرائيلي من إكمال مسلسل القتل، كلمات الطفل بدت كأنها أكبر منه، بل أكبر من الزمان الذي هو العائق الفعلي بين مراده وبينه.
في هذه المساحة من الفيلم وغيرها، تدخل كاميرا سكاف في فلسفة المقاومة كعنوان يتخطى النتائج، ويوغل في الأسباب، المقاومة تحضر بشكل آخر في فيلم "صُوَر" حيث آخر دقائق العمل تصوّر في الضاحية الجنوبية التي تلملم ذاتها بهدوء وثقة، فهذا يبني وذاك يدهن، والآخر يدخن النارجيلة، ثم نشاهد صوراً فوتوغرافية لأهل الضاحية وهم يعطون آراءهم في الحرب بكثير من العزم والتحدي، بل أكثر من ذلك نلاحظ أن بعضهم كان يتكلم بفرح، أجل، الكثيرون بعد حرب تموز استطاعوا تخطي اللحظة الرمادية نحو الألوان التي أفرزتها تلك الساعات الطوال.
في فيلم "صُوَر" عرفت راغدة سكاف كيف تقدم مادتها العميقة بكثير من الاختزال والهدوء والمهنية.
راغدة سكاف اليوم ضيفة في مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية، حيث تلقت دعوة من المنظمين، وهو أمر لا يتم مع الأفلام العادية.
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ العدد1264 ـ 25 نيسان/أبريل 2008

2008-04-25