ارشيف من :آراء وتحليلات

الاتفاق البرازيلي ـ التركي ـ الايراني يخلط الأوراق والحسابات.. والرد الأميركي لمزيد من التفاوض أم لإسقاط الاتفاق?

الاتفاق البرازيلي ـ التركي ـ الايراني يخلط الأوراق والحسابات.. والرد الأميركي لمزيد من التفاوض أم لإسقاط الاتفاق?
مصطفى الحاج علي
المفاجأة كانت هذه المرة برازيلية ـ تركية ـ ايرانية بامتياز، وما عجزت عن فعله القوى الدولية الكبرى بكل ما تحمله من تراث ديبلوماسي، وحرفية تفاوضية، وأدوات ضاغطة، نجحت في فعله قوى اقليمية صاعدة كل منها في مداها الجيوبولتيكي الخاص، الانجاز النووي البرازيلي ـ التركي ـ الايراني كان أكبر من أن يصدق، وجاء عكس رهانات كثيرين، المعلن منها رهان رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف الذي لم يعط للسعي البرازيلي ـ التركي أكثر من نسبة 30% كنسبة نجاح، ولعل هذا التقدير الروسي هو واحد من الأسباب التي دفعت موسكو الى مجاراة واشنطن في لعبة العقوبات التي عملت على رفعها الى مجلس الأمن لإقرارها.
الاتفاق الذي توصل اليه المثلث البرازيلي ـ التركي ـ الايراني وازن الى حد كبير بين تمسك ايران بحقوقها النووية المشروعة، والتزامها الأخير مع مجموعة الدول الخمس زائد واحد والوكالة الدولية، والقاضي بمبادلة نحو 1200 كلغ من اليورانيوم الضعيف التخصيب (3،5%) بوقود نووي عالي التخصيب، وذلك بعد توفير الضمانات اللازمة للالتزام بهذا البند من خلال اختيار تركيا كبلد للمقايضة لأنها تقع في مساحة مشتركة بين كونها عضوا في حلف الأطلسي وقريبة من الغرب، ودولة صديقة تجمعها مصالح كبيرة مع ايران، ومن خلال ابتكار فكرة الوديعة، حيث نص الاتفاق على وضع 1200 كلغ كوديعة لدى تركيا بانتظار تسليمها ما يقرب من 120 كلغ من الوقود النووي خلال مدة عام كحد أقصى، وإلا يصبح الاتفاق ملغى، ويحق لايران استعادة الـ 1200 كلغ من اليورانيوم التي تخصها.
هذا الاتفاق شكل ضربة معلم ثلاثية، ولا سيما أنه نجح في تحقيق جملة أهداف أهمها:
أولاً: كسر الصورة النمطية التي يحرص الغرب على تقديمها عن ايران كدولة ترفض كل أشكال الحلول الخاصة بمعالجة الملف النووي الخاص بها، فالاتفاق أظهر بوضوح مدى جدية ايران في التزام أي اتفاق يحرص على الموازنة بين الحقوق والموجبات، وان المشكلة بالتالي ليست كما يصور الغرب بأن هناك نيات مضمرة لايران ونيات معلنة، وانما المشكلة في أن الغرب لا يريد الاقرار بحقوق ايران النووية.
ثانياً: ان المشكلة الرئيسية هي مشكلة انعدام الثقة التي تحفر عميقاً بين الغرب عموماً والولايات المتحدة تحديداً من جهة، وايران من جهة أخرى، بدليل عندما أنه توافرت دول ذات مصداقية، وضمانات فعلية، جرى التوصل الى اتفاق بسهولة.
ثالثاً: بدا الوزن الدولي للبرازيل وتركيا حاضراً بقوة، وهو وزن يؤسس الى جانب ايران لمشهد دولي جديد مختلف تماماً. بكلمة أخرى، يبدو أننا ازاء ارهاصات لولادة نظام دولي جديد يغادر تماماً البعد الأحادي، والبعد التعددي الفوقي، الى نظام متداخل ومتراتب الدوائر، حيث هناك دول كبرى، ودول اقليمية فاعلة ومؤثرة تشارك هذه الدول الكبرى في صياغة العلاقات والتوازنات الدولية القادمة.
رابعاً: لا شك، ان الاتفاق رمى بكرة الملف النووي في مرمى وملعب الغرب والدول الخمس زائد واحد الى جانب الوكالة الدولية، التي بات عليها ان تتعامل بمنتهى الجدية مع هذا التطور، ولا نغالي اذا قلنا هنا، ان هذه الأطراف ليست في وضع تحسد عليه، فهي من جهة لا تستطيع رفض الاتفاق، ومن جهة أخرى لا تستطيع قبوله كما هو او الاكتفاء به، لأنه يناقض الأهداف المضمرة والمعلنة لما يريد هؤلاء الوصول اليه في اصطناع أزمة الملف النووي الايراني، ولذا سارعت هذه الأطراف إما الى الترحيب به جزئياً، أو الى التشكيك به، أو الى اعتباره غير كافٍ ولا يتجاوب أو يلبي كل الشروط والمطالب الغربية من ايران والمتعلقة بملفها النووي.
خامساً: ان الاتفاق جاء في توقيت دقيق ومهم حيث شكل اعتراضاً قوياً لمسار التصعيد الاميركي ـ الغربي ـ الاسرائيلي، وصولاً الى فرض منظومة عقوبات جديدة على ايران، ومن المعروف أن جهود واشنطن تكللت مؤخراً بالنجاح على صعيد استحصال موافقة الدول الخمس زائد واحد على لائحة جديدة من العقوبات، وهي كانت تنوي رفعها الى مجلس الأمن لإقرارها في شهر حزيران المقبل. بكلمة أخرى، ان الاتفاق سيؤدي الى خلط الأوراق في ما يتعلق بالعقوبات دافعاً الى اجراء حوار اضافي حولها، وصولاً ـ ربما ـ الى التراجع عنها، افساحاً بالمجال أمام المزيد من ديناميات التفاوض المباشر، فالأمر سيبدو أصعب على واشنطن مما سبق.
هذه الاعتبارات، هي التي دفعت واشنطن الى محاولة رد الكرة سريعاً الى الملعب الايراني من خلال الاعلان عن استمرار محاولاتها للحصول على تأييد مجلس الأمن على لائحة جديدة من العقوبات، في الوقت الذي بدأنا نشهد فيه ارتفاع أصوات داعية الى التريث، وافساح الطريق مجدداً امام الجهود الديبلوماسية والصوت البارز هنا هو صوت الصين، ومن ثم الصوت الروسي الذي حافظ على درجة من الالتباس. وفي مطلق الأحوال، يبدو المشهد الدولي اعلامياً وسياسياً موزعاً اليوم بين صورتين: الصورة الأولى هي صورة النجاح التركي ـ البرازيلي ـ الايراني في الوصول الى اتفاق منصف، والصورة الثانية هي صورة الولايات المتحدة المصرة على اسقاط هذا الاتفاق من خلال الاصرار على إمرار لائحة عقوبات جديدة ضد ايران.
مجلس الأمن لن يكون بعيداً عن هاتين الصورتين، واعضاؤه سيكونون موزعين بينهما، والأيام المقبلة ستحسم الوجهة التي ستتخذها الأمور، وهي تتراوح بين اعتبار الاتفاق مخرجاً مهماً يجب التمسك به والبناء عليه، وبالتالي، عدم افشاله، لأنه بذلك سيتم اسقاط فرصة مهمة، ونافذة حل كبيرة لا يجوز التفريط بها، أو الاصرار على اعتبار ما جرى غير ذي معنى، والعمل بالتالي على لائحة جديدة في من العقوبات، ودفع الأمور نحو المزيد من التوتر.
تبني الحل الأول ولو كمنطلق، سيكون له أكثر من انعكاس ايجابي دولياً واقليمياً، ابرزها التالي:
أولاً: تنفيس التوتر والاحتقان في المنطقة عموماً، وهو توتر واحتقان باتا ينذران مؤخراً باحتمال تطور الأمور نحو حروب مدمرة.
ثانياً: فتح باب التسويات، حيث أمكن في المنطقة على الواسع، لا سيما في الملفات التي تشهد تقاطع مصالح كبيرة.
ثالثاً: تقليص ظل الحرب المخيم فوق لبنان تحديداً من قبل الكيان الاسرائيلي الى الحد الأقصى.
رابعاً: فتح الطريق أمام فك الملفات الأساسية في المنطقة بعضها عن البعض الآخر، لا سيما ملف التسوية عن الملف الايراني.
في هذا الإطار، فإن أي تسوية للملف النووي الايراني هي لغير مصلحة حكومة نتنياهو التي تريد ابقاء هذا الملف مفتوحا، وبالاتجاه الذي يحوله الى وسيلة ضغط وحصار وابتزاز لايران وحلفائها في المنطقة، وكوسيلة أيضاً للضغط على واشنطن، ولتحويل وجهة الاهتمام عن المشروع الصهيوني الذي يعمل على تسريع وتيرته في فلسطين المحتلة الى المشروع النووي الايراني، وربما يجعله قاعدة لتحالف موضوعي مع عرب اميركا.
من هنا، لا شك، ان الخاسر الأكبر من أي حل للملف النووي الايراني هو الكيان الاسرائيلي.
خامساً: خلاصة القول هنا، ان الاتفاق التركي ـ البرازيلي ـ الايراني وضع الولايات المتحدة تحديداً والغرب عموماً أمام اختبار نوايا حقيقي لما يريدونه فعلاً: فهل يريدون من اثارة الملف النووي الحصول على ضمانات كما يقولون بأن لا يستيقظوا يوماً فيجدوا ايران وقد حازت السلاح النووي، أم أنهم يريدون أموراً أخرى، هي توسل هذا الملف لضرب النظام الايراني بعد انهاكه بحسب زعمهم، والحيلولة بالتالي دون تمكن ايران من امتلاك القدرات اللازمة التي تجعلها مؤهلة للعب دور اقليمي قوي، فلا تكون المنطقة خالية لوجه الكيان الاسرائيلي.
الأيام المقبلة ستكون حاسمة لوجهة الأمور في المنطقة، فإما انحسار للتوتر، وإما تمديد للاحتقان.
2010-05-21