ارشيف من :آراء وتحليلات
تدهور اليورو: الاضطراب الاجتماعي يهدد بما هو أسوأ من تفكيك الاتحاد الأوروبي!

عقيل الشيخ حسين
يقول المسؤولون عن المصارف الأوروبية الكبرى، ومنهم محافظ البنك المركزي الأوروبي، بأن الأزمة المالية التي تعصف حالياً بأوروبا هي الأسوأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويؤكدون أن الوضع الحالي شبيه بالأوضاع التي رافقت انهيار بنك ليمان براذرز الأميركي الذي كان الشرارة التي أشعلت الأزمة المالية التي هزت الولايات المتحدة والعالم ابتداءً من العام 2008.
أبرز عوارض الأزمة هو الانهيار السريع لأسعار صرف اليورو مقابل الدولار. فقد هبط اليورو من 1،6 دولار خلال الصيف الماضي إلى حوالي 1،2 دولارفي الوقت الحالي. وهذا السعر يعتبر مخلاً بتوازن التبادلات التجارية بين أوروبا والولايات المتحدة، على أساس أن السعر المناسب لتوازن هذه العلاقات لا يجب أن يقل عن 1،3 دولار لليورو الواحد.
لكن الوضع بلغ درجة من السوء تدفع المعنيين إلى بذل الجهود من أجل الحيلولة دون استمرار الانهيار إلى مستوى تتعادل فيه العملتان، الأمر الذي يعود بأضرار جسيمة على اقتصاديات 16 بلداً أوروبياً تشكل منطقة اليورو، ويهدد بتعريض الاتحاد الأوروبي نفسه للانهيار.
أقرت اليونان خطة تقشف قاسية ومعظم الحكومات الأوروبية، من البرتغال إلى ألمانيا، تتدارس خطط تقشف قاسية لتجنب انتقال الأزمة اليونانية إليها |
وقد اتفق الأوروبيون على اعتماد خطة لإنقاذ اليورو بمبلغ 750 مليار يورو (950 مليار دولار) يفترض أن تستفيد منها، بشكل أساسي، الإقتصادات المأزومة في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا.
إلا أن المراقبين يؤكدون أن هذا المبلغ لن يكون مفيداً إلا في منح الأوروبيين بعض الوقت لإيجاد حلول جذرية لا يمكن التوصل إليها دون توحيد السياسات الاقتصادية والمالية في بلدان منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي عموماً.
ويصطدم توحيد هذه السياسات بصعوبات ناشئة، بين عوامل أخرى، عن التفاوت الكبير في القدرات الاقتصادية بين البلدان الأوروبية الغنية والبلدان الأقل غنى، وهي صعوبات لم تتم معالجتها بالقدر الكافي من الجدية في وقت كانت تعطى فيه الأولوية للمكاسب السياسية التي حفزت السرعة القياسية التي تم فيها توسيع الاتحاد الأوروبي عبر ضم العديد من بلدان أوروبا الشرقية ذات المستويات الاقتصادية الضعيفة.
ويمر توحيد هذه السياسات إجبارياً بضخ الأموال باتجاه البلدان الضعيفة اقتصادياً. وكانت مصارف البلدان الأوروبية الغنية التي كانت تضخ هذه الأموال تراهن بالطبع على تحصيل عائدات كبيرة سيضمنها الازدهار الذي كان يعتقد بأنه سيتحقق حتمياً بفضل دينامية أواليات الليبرالية الاقتصادية وتحرير الأسواق.
لكن عمليات الضخ هذه، وبغض النظر عن إسهامها الفعلي في تنشيط اقتصاديات تلك البلدان، أسهمت في مفاقمة ما يسمى بأزمة الديون السيادية التي فجرت الأزمة المالية في اليونان وهددت بالانتقال إلى بلدان أوروبية أخرى.
وقد لعب الابتهاج بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وسيادة الاعتقاد بأن أبواب الازهار والرفاه قد فتحت على جميع مصاريعها، خصوصاً في ظل تدفق الأموال من مصارف البلدان الغنية... لعب دوراً في رفع مستوى السخاء الحكومي في مجالات الإنفاق العام... كما لعب دوراً أكيداً في فتح شهية المتنفذين السياسيين لابتلاع المال العام.
من هنا، وفي ظل هيمنة قطاع الخدمات والمضاربات على النشاط الاقتصادي في تلك البلدان، على حساب القطاعات المنتجة، فشل ضخ الأموال في تحقيق النتائج المرجوة، بل أفضى إلى نتائج عكسية تمثلت بالانهيار الحالي.
وبالطبع، فإن هذا الانهيار انعكس بنتائجه الموجعة على مصارف البلدان الدائنة وفي مقدمتها المصارف الألمانية والفرنسية. وهذا ما أجبر ألمانيا -بعد طول تمنع- على مد يد المساعدة إلى اليونان وعلى الموافقة على خطة الانقاذ الحالية.
لكن الموافقة على خطة الانقاذ التي لا تزيد عن كونها حلاً مؤقتاً بانتظار الاتفاق على حلول جذرية صعبة التحقيق، لم تكن ممكنة دون استعانة أوروبا بصندوق النقد الدولي، مع ما يشكله ذلك من مساس بقدرة الاتحاد الأوروبي ومصداقيته وهيبته.
والأخطر هو الثمن الاجتماعي الباهظ لتلك الخطة. فالرفاه والازدهار يخليان المجال الآن للتقشف. فقد أقرت اليونان خطة تقشف قاسية. ومعظم الحكومات الأوروبية، من البرتغال إلى ألمانيا، تتدارس الآن خطط تقشف قاسية لتجنب انتقال الأزمة اليونانية إلى بلدان أوروبية أخرى.
والتقشف يعني خفض الرواتب وزيادة الضرائب وتقليص الخدمات الاجتماعية. وسط أزمات اجتماعية ناشئة عن ارتفاع منسوب البطالة وتراجع العديد من القطاعات الاقتصادية بفعل الأزمة المالية العالمية.
وهذا ما لا يقابله الشارع الأوروبي بالتفهم والقبول. وهذا ما يفسر دخول اليونان في مرحلة الإضرابات العامة المفتوحة، وبدء هذه الاضرابات بالانتقال إلى بلدان أوروبية أخرى، مع ما يحمله ذلك من مخاطر الإنزلاق نحو الأسوأ.
أوروبيون كثيرون، ومنهم الرئيس الفرنسي، تقدموا عند انفجار الأزمة المالية في أميركا، بطروحات تدين النظام الرأسمالي وتدعو إلى وضع حد أمام استشراء الليبرالية والرأسمالية المتوحشة.
ومع وصول الأزمة إلى أوروبا، وطالما أن الحلول الترقيعية تمر إجبارياً بالتقشف، فقد آن لوضع التقشف في إطار سياسة اقتصادية تقوم على أساس مراجعة جذرية للأسس التي يقوم عليها النظام الرأسمالي.