ارشيف من :آراء وتحليلات
غزة والقبر العربي

كتب نصري الصايغ
غزة في الأسر، أقوى من كل الأسرى العرب المقيمين في قارة العجز العربية، المترامية باهترائها، من المحيط الى الخليج.
غزة في جلجلتها، على وشك القيامة الوطنية، فيما القبر العربي المتمادي، على وشك التخمة في أشلائه المتحركة.
غزة الإنسان، شيوخاً على مواطئ خطاهم، نساءً على خبز وجعهن، رجالاً على مطارح وقوفهم، أطفالاً على قامة دموعهم، أشد تعلقاً بالمياه والكرامة والنبل، من مطارح الدنيا الغارقة في المذلة والمهانة المتبرجة بمساحيق الحضارة وإسفلت حقوق الإنسان.
غزة العربية، عربية وحيدة، بقامة فريدة، تماماً، كما كانت المقاومة في لبنان، وحيدة وحيدة، وفريدة فريدة و... "النصر للصابرين".
غزة الأم، لا أم مثلها. ولها من الأبناء، من يجوع ويبقى على شبع الوطن، من يبكي ويبقى على فرح الولادة، ومن يتألم ويبقى على تسمية الخبز كرامة، والماء نبلاً، والضوء.. نهاراً غزاوياً.
لا ترفعي الصوت يا غزة.. ففي هذه الدياجير العربية، يسكن رجال ونساء صم، بكم، لا يسمعون، وإن حكوا، ثرثروا حكايات بابلية لا لغة فيها، تتحرك حروفها كحشرات ضارة، ونباتات سامة.
ولا تتضرعي لعرب، قلوبهم، تنبض بالفرار. أقدامهم في عيونهم، وأحذيتهم في جباههم، وحكمتهم المأثورة: "العار خير والجبن فضيلة، والدين دينار، والآخرة دولار".
لن يتحركوا، وقعوا على أقفيتهم وقالوا: كفانا قتالاً، وهم لم يقاتلوا أصلاً أحداً. ذباب على أكتاف ذباب، بالملايين. لن يحركوا غير أحناكهم. فالحنك العربي يطقطق كلاماً، ويرطن معنى، ومصاب بسفلس الأخلاق.
ولن تنجدك يا غزة الإنسان، أي منظمة لحقوق الإنسان.
ولن تقف معك مؤسسات لا حكومية عالمية، فالضمير الإنساني مات، مات، مات... وآن لنا أن ندفنه. لقد أنتن هذه الضمير، عليه من دمائنا، أكثر من حبر الكلام. لقد بات الضمير الإنساني، خطراً على البشرية.
ليس لكِ يا غزة، غير أن ييأس العدو من جدكِ، وعناد ألمك، وقبضة وجعك، وسطوة أسطورتك التي تقول: "عندما ركعت أمة، بقيت أنتِ واقفة، باسم فلسطين، وباسم الحق، وباسم العرب".
ليس لكِ، إلا شذاذ العالم اللاإنساني، يطرقون أمواج بحرك بقليل من العزاء، والسفن اليتيمة، المحملة بالرموز التي تداوي الروح، وكأنها تقول لكِ: لست وحدك أيتها القليلة القوية، بل نحن معك، القليلة القليلة الضعيفة.
وليس لي، أنا كاتب هذه السطور، سوى أن أقدم طلب انتساب، لأصبح أجنبياً، أضع نفسي في قارب غربي اللكنة والهوية، مع شذاذ العالم اللاإنساني، لأصل إليك، وأتعلم منكِ، كيف أعتلي الحصار، وأرفع راية الإنسان.
لم يبق لنا، في غزة، غير هذا الإيمان، وهو كاف، كاف، ليوم التحرير.
الانتقاد/ العد1319ـ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008