ارشيف من :أخبار لبنانية
الضبّاط الأربعة معتقلون بدلاً عن ضائع

تتعامل السلطة في لبنان بشقّيها، السياسي المتمثّل بحكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس المكلّف فؤاد السنيورة، والقضائي المجسّد بالمحقّق العدلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي صقر صقر، والنائب العام العدلي القاضي سعيد ميرزا، بكثير من الاهمال واللامبالاة وتمويت الوقت في قضية استمرار اعتقال الضبّاط الأربعة، اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج، والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار من دون وجود إثبات قانوني ملموس واحد ضدّهم.
وقد حوّل هذا الاعتقال السياسي التعسّفي هؤلاء الضبّاط إلى معتقلين بدلاً عن ضائع، إذ يفترض أن يكون المتهمّ الحقيقي موقوفاً تمهيداً لإحالته وسوقه إلى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بعدما أكّدت التحقيقات المجراة معهم، سواء لدى التحقيق الدولي أو التحقيق اللبناني، عدم علاقتهم بهذه الجريمة لا من قريب ولا من بعيد، وهو ما أقرّ به رئيسا اللجنة الدولية البلجيكي سيرج برامرتز والكندي دانيال بيلمار، وبعكس ما ذهب سلفهما الألماني ديتليف ميليس إلى تحقيقه لمآرب سياسية تخدم مصلحة مرتكب الجريمة الفعلي بغية إبقائه بعيداً عن الملاحقة، وتوجيه التحقيق نحو آخرين ولو لمدّة زمنية تكون فاصلة لتواري المجرم الرئيسي، وتنسف أسس المحكمة القائمة أساساً لمحاكمة القتلة لا أيّ شخص بديل يستعاض به عنهم، وإلاّ فهي سلاح سياسي يستخدم للحصول على مغانم سياسية.
وتحفل سجلات التاريخ اللبناني بأحداث مماثلة جعلت الموظّف يدفع ثمن انقياده للرجل السياسي على مرّ العهود والحقبات السياسية الماضية.
فعند انتهاء الشهابية المستقاة من تولّي الرئيس فؤاد شهاب سدّة الحكم، تمّ وضع رئيس فرع الأمن الداخلي في المكتب الثاني (شعبة المخابرات) اللواء سامي الخطيب، ورئيس فرع الأمن الخارجي في الشعبة المذكورة الضابط عباس حمدان في السجن مدّة ستّة أشهر، بينما جرى نفي رئيس المكتب الثاني غابي لحود إلى إسبانيا. وما إن انتهت هذه العقوبة السياسية، واكتمل التغيير السياسي في البلاد، حتّى أطلق سراح السجينين، وعيّن المنفي سفيراً في إسبانيا.
وبعيد انتقال دفّة رئاسة الجمهورية من إلياس سركيس إلى بشير الجميل بفضل الجهود الإسرائيلية والأميركية، ترك مدير المخابرات العقيد جوني عبده لبنان، وعيّن لاحقاً، سفيراً في فرنسا حيث صار مستشاراً للرئيس رفيق الحريري ومرشّحه الدائم لرئاسة الجمهورية، وهو الذي كان يزور "إسرائيل" ويلتقي قيادييها لإحضار السلاح منها وتوجيهه ضدّ اللبناني الآخر المنخرط في الحركة الوطنية، وضدّ الفلسطيني.
واستلم أمين الجميل الحكم بعد اغتيال شقيقه بشير، فبقي مدير عام الأمن العام زاهي البستاني صديق بشير الحميم وأحد أبرز المنظرين والفاعلين لإيصاله إلى الرئاسة الأولى، عامين في منصبه تقريباً ثمّ تخلّى عنه، واستقرّ في فرنسا، قبل أن يطلب إعادته إلى لبنان بسبب معاناته مع مرض عضال، ففارق الحياة في 24 تشرين الأول/أكتوبر من العام 2006.
وعند إسقاط رئيس الحكومة العسكرية وقائد الجيش العماد ميشال عون، اقتيد مدير المخابرات العميد عامر شهاب إلى السجن في سوريا، وما لبث أن أخرج منه بعدما ارتدى التغيير السياسي حلّته الجديدة كاملة.
وعند انتهاء عهد الرئيس إلياس الهراوي، سجن وزير النفط شاهيه برسوميان المحسوب على الهراوي أحد عشر شهراً، كما سجن مدير عام وزارة الاتصالات عبد المنعم يوسف ومدير عام المرفأ مهيب عيتاني المحسوبان على الرئيس رفيق الحريري، وعيّن مدير عام الأمن العام ريمون روفايل المقرّب من الهراوي سفيراً في تونس، وبعدما عاد الحريري إلى السلطة خرج السجناء الثلاثة من زنازينهم "المخملية" في سجن رومية المركزي.
ولكنّ التغيير السياسي في عهد الضبّاط الأربعة الموقوفين، مختلف عمّا سبقه في السنوات الماضية، فلأوّل مرّة في تاريخ لبنان يكون سبب التغيير جريمة، وليست جريمة عادية، بل زعزعت الوضع في لبنان وتركت اهتزازات سياسية وأمنية كثيرة، غير أنّ التغيير السياسي المنتظر لم يكتمل بعد، ما يعني ضرورة إبقاء الضبّاط الأربعة قيد التوقيف ولو تعسّفياً وخلافاً للقانون، وذلك كضمانة لاكتمال التغيير، فالسياسة فوق القانون الذي يجب عليه أن يرضخ لإرادتها وسلطتها، كما أنّ القانون في خدمة السياسة وهو موظّف لديها، حتّى ولو صنّفه الدستور سلطة، ولكنّها سلطة من درجة ثالثة.
إنّ الموظّف يتولّى تنفيذ تعليمات الحكومة والدولة، وليس هو من يقرّر سياستها، وإنّما الرجل السياسي، وبالتالي فإنّ السياسة لا تحاسب نفسها، بل تقدّم الموظّفين قرابين عنها، فيدخلون السجن بدلاً عن ضائع، وهذا ما هو حاصل مع الضبّاط الأربعة الذين أوقفوا ليحاكموا ليس عن جريمة اغتيال الحريري التي هم براء منها، وإنّما عمّا جرى في عهد الرئيس العماد إميل لحود وهم قادة معظم أجهزته الأمنية: الأمن العام، وقوى الأمن الداخلي، والحرس الجمهوري، ومخابرات الجيش اللبناني.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1277 ـ 1 تموز/ يوليو 2008