ارشيف من :آراء وتحليلات

الإسلام المعتدل بين بونابرت وبترايوس !!!

الإسلام المعتدل بين بونابرت وبترايوس !!!

عقيل الشيخ حسين

التاريخ يعيد نفسه بكل ما يحمله من عبر. فمنذ نحو 200 عام نزل نابليون بونابرت أرض مصر غازياً. كانت مصر يومها تحت حكم المماليك الذين كانوا يقدمون أنفسهم، محقين حيناً ومبطلين أحياناً، شأن سائر الحكام في بلاد المسلمين، على أنهم حماة الشريعة والذائدين عن بيضة الإسلام.

وبعد القضاء على المماليك، وجد نابليون أن من المصلحة، لتوطيد سلطانه على مصر، أن يطرح نفسه كمحرر لشعبها باسم الإسلام. فارتدى جبة واعتمر عمامة وراح يناقش العلماء منافحاً عن العقيدة والشريعة، وواضب على الصلاة في المسجد، لدرجة أن كثيرين رأوا فيه مسلماً حنيفاً، وفي احتلاله لمصر ولقسم كبير من فلسطين، التي كان أول من وعد بإقامة وطن قومي لليهود فيها، نصراً للإسلام وللمسلمين.

ويتكرر المشهد بألف شكل وشكل. جيوش الاحتلال البريطاني والفرنسي فتحت لبنان وسوريا والعراق وفلسطين وغيرها بطلائع من الجنود المسلمين المستجلبين من غرب إفريقيا وشمالها ومن الهند وباكستان. وبعض تلك الطلائع كانت تقاتل جنباً إلى جنب مع الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني الذي كان نواة ما سمي، فيما بعد، بجيش الدفاع الإسرائيلي.

واليوم، وبالتوازي مع التحالفات الوثيقة بين دول وأحزاب وتنظيمات تطرح نفسها كإسلامية، من جهة، وقوى الغزو والهيمنة، من جهة أخرى، تتبع الهجمة العالمية على الإسلام مسارين متضادين في الظاهر.

على المسار الأول تشن حروب واسعة النطاق على بلدان إسلامية كما في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان. والعجز عن شن الحروب المباشرة على بلدان كإيران وسوريا يدفع قوى الغزو والهيمنة إلى استخدام تشكيلة من الأسلحة تتراوح بين المؤامرات، وأعمال التخريب، والاغتيالات، والسعي لإثارة الفتن، وفرض العقوبات، والتلويح بالإغراءات والتهديدات... ولا تترد تلك القوى في إثارة المشاكل والتضييق حتى على البلدان الإسلامية التي تعتمد سياسات غير معادية لتلك القوى، كما في حالة السعودية ومصر ونيجيريا والسلطة الفلسطينية.

كما تتعرض الجاليات الإسلامية في الغرب، وفي أميركا بوجه خاص، إلى الكثير من إجراءات التضييق والملاحقة والعنف والاعتداء على الممتلكات. يشهد على ذلك تقرير صدر قبل مدة عن منظمة العفو الدولية. وكل ذلك يدل على أن الاستهداف ذا الأبعاد الصليبية الواضحة لا يستثني أي بلد إسلامي، أو أية مجموعة سكانية إسلامية.


ومن الطبيعي أن شن الحروب، وخصوصاً تلك التي يطول أمدها دون أن تصادف غير المراوحة أو الفشل، تسلزم تجييشاً إعلامياً خاصاً للشارع الغربي غالباً ما يقوده أو يشارك فيه مسؤولون سياسيون ودينيون بهدف تصوير الإسلام على أنه دين الإرهاب والعنف والتخلف واضطهاد المرأة، وما إلى ذلك.

ومن مستلزمات التجييش شن عمليات إساءة منظمة لرموز الإسلام . فمن سلمان رشدي وتسليمة نسرين وأضرابهما، وتدنيس المصاحف من قبل جنود الأطلسي، وظهور الرسوم المسيئة، ورفع الدعوات لمنع بناء المساجد والمآذن، إلى منع الحجاب والنقاب، وصولاً إلى التهديد بتنظيم عمليات حرق المصاحف، يراهن المشرفون على هذه الحملات على استثارة ردود أفعال من قبل المسلمين يسهل وضعها في خانة الإرهاب، ما يعزز ظاهرة العداء للإسلام في الغرب ويضمن تأييد الشارع الغربي للحروب التي تشنها قوى الغزو والهيمنة.

وعلى المسار الثاني، تأخذ الحملات على الإسلام شكلاً أكثر خطورة عندما تنصب الجهود على إنتاج إسلام مدجن عبر التصرف التعسفي بنصوصه التأسيسية. فقد ظهرت مطالبات بحذف آيات من القرآن الكريم بزعم أنها تحض على الكراهية. وبوحي أو بلا وحي من قوى الهيمنة، تنبري مرجعيات ومنابر إسلامية كثيرة لتقديم تفاسير للقرآن وإنتاج خطابات إسلامية تتماشى مع مصالح الهيمنة والقوى المرتبطة.


كما تم إملاء برامج للتعليم الديني البعيد عن روح الإسلام على بعض البلدان الإسلامية. وكل ذلك يصب في طاحونة ما يسمى بالاعتدال والإسلام المعتدل الذي تتحالف دوله وتنظيماته جهاراً نهاراً مع "إسرائيل" وبلدان الأطلسي لتشكل جبهة مضادة لحركات المقاومة وبلدان الممانعة.


وإلى الإسلام المعتدل، بات الحديث ممكناً اليوم عن إسلام أميركي لا بمعنى دوران دول إسلامية في فلك السياسة الأميركية، بل بمعنى تصدي أميركا لمهمة طرح نفسها كمتكلم باسم الإسلام. إذ ليس من قبيل الصدفة أن يخطر ببال القيمين على الإسلام في أميركا بناء مسجد ضخم في المكان الذي تعرض لهجمات 11/9. وأن يقدم هذا المسجد كرمز للإسلام المعتدل في قلب أميركا. وأن يصرح إمام هذا المسجد بأن التراجع عن بنائه تحت ضغط الجمهوريين يخدم التطرف الإسلامي ويعرض من أسماهم بـ"جنودنا" إلى الخطر.


وليس من قبيل الصدفة أن ينتهي هذا المشروع بسيناريو الانتصار على القس تيري جونز الذي ضرب مثلاً في التسامح الشبيه بالتسامح المطلوب تحويله إلى عقيدة حصرية في الإسلام، عندما تراجع عن عزمه تنظيم احتفالية لحرق أعداد من المصاحف.


وقد نسمع قريباً عن منحه، لتسامحه، أوسمة رفيعة في احتفاليات يحضرها ممثلون متحابون عن الديانات السماوية. في وقت يغيب فيه الحب بشكل كامل عن ساحات الإبادة التي تقترفها قوى الهيمنة بحق المسلمين في العديد من البلدان.


وليس من قبيل الصدفة أن تروج شائعات مفادها أن أوباما مسلم يخفي إسلامه. فهذه الشائعات حتى ولو كانت صادرة عن خصومه الجمهوريين بقصد تقليص شعبيته، لا تمر دون أن تثلج صدور الكثيرين في العالم الإسلامي، ودون أن تدفع باتجاه الولاء للإسلام النابع من أميركا.


وليس من قبيل الصدفة أن تقرر جمعية إسلامية أميركية الرد على إحراق كل نسخة من المصحف بإرسال مئات المصاحف إلى أفغانستان ليقوم الجنرال دايفد بترايوس، ربما دون أن يمسح يديه من دماء ملايين المسلمين الأفغان والعراقيين وغيرهم، بمسها وتوزيعها على الجنود الأفغان الذين يجري إعدادهم لاستكمال مهمة الغزاة بعد خروجهم من أفغانستان.


ما تعرض له القرآن من صنوف الاضطهاد، تحريفاً لمعانيه، وتجهيلاً بتعاليمه، ورفعاً على رؤوس الرماح، ورمياً بالسهام، على أيدي مسلمي المُلك العضوض، يظل مسألة "داخلية" تعيد نفسها، على مر التاريخ، بألف صورة وصورة، وتجد لنفسها، على مر التاريخ، تسويغات وتبريرات تستمد شرعيتها من سيف مرفوع بيد ومن كيس مملوء بالدراهم والدنانير مرفوع باليد الأخرى. وخصوصاً من كون مسلمي المُلك العضوض ناطقين بالشهادتين ومنتمين إلى بني جلدتنا.


لكن الأمر يختلف عندما يصبح على المسلمين أن يأخذوا دينهم عن أمثال نابليون بونابرت ودايفد بترايوس. وأن يتولوا أمثال نابليون بونابرت ودايفد بترايوس.



2010-09-13