ارشيف من :آراء وتحليلات
المسيحيون من التخويف الى التطمين

كتبت ليلى نقولا الرحباني
"نحن" و"هم" تعبيرات وجودية حضارية برزت منذ فجر التاريخ، فمنذ بروز المجتمعات القديمة والحديثة تشكلت سياسة التخويف من الآخر التي ادت الى ما أدت اليه من الحروب والويلات والمآسي التي عبر عنها "سارتر" بكثير من الصدق في مقولته الوجودية: "الاخرون هم الجحيم".
اما في لبنان، فالمأساة أكبر، اذ ان الفئات اللبنانية بمجملها وخاصة الطوائف عاشت مآسي الاضطهاد الحقيقي في شرق طبعته الحروب والاحتلالات والاستعمار المتبدل الهويات والقيم، والذي مارس ابشع انواع الاضطهاد الديني والحضاري، لذا فإن كل فئة مكونة للمجتمع اللبناني عاشت تستمد من تاريخها ذكريات الاضطهاد والخوف على المصير الذي تعرضت له خلال تاريخها لتضفيه على حاضرها ولتورثه للاجيال اللاحقة.
حاولت كل فئة لبنانية خلال تاريخ لبنان العريق بالمآسي والحروب الطائفية والتعامل مع الخارج ضد الداخل، السير في ظواهر السعي الى إلغاء الآخر، بالاضافة الى تمجيد الأنا، وتورم "الذات" من خلال الاعتداد المبالغ به بالهوية الثقافية والاجتماعية المختلفة.... وهكذا عاش الجميع في خوف من الجميع، ونشأت حالات شاذة يفترض ان تكون غريبة على مواطنين يتشاركون نفس الفضاء الحيوي والجغرافي.
مارست كل فئة لبنانية عنصريتها على الاخرين، فرسمت للآخر صوراً من نسج خيالها، وحددته كما تتخيله او كما تريده ان يكون لكي تستطيع التخويف منه ولإكسابه صفة "الجحيم".
وبهذا المبدأ عاش المسيحيون اللبنانيون - كما باقي الطوائف - طويلاً، واستغل زعماؤهم الخوف التاريخي المزمن المستمد من الحقبة العثمانية التي غالت في التعصّب، واستخدمت الدين مبرراً لقمع الاقليات والحفاظ على السلطة، ثم أتت الحروب المذهبية التي غذاها الخارج طمعاً في موطئ قدم في لبنان بحجة حماية الاقليات المضطهدة لتزيد الطين بلة.
ولم يكن للاستقلال الذي حققه لبنان تغيير يذكر في السياسة التخويفية، بل جاء الاستقلال اللبناني بزعامات تقليدية اقطاعية بنت امجادها وزعامتها على الاستمرار في سياسة التخويف من الآخر "المختلف"، غذاها الحديث عن رفض الكيان بصيغته النهائية. ولم تكد الحرب تبدأ، حتى تفجر الخوف الوجودي المزمن تقوقعاً طائفياً خطيراً، واستحضرت كل طائفة خطاباتها وأدبياتها، وخوفها على الوجود والمصير، فغالت في الاستقواء بالخارج، وحلمت بقدرة خارجية ما تساعدها على الغاء الآخر اخيراً، بعد قرون من المد والجزر التي لم تستطع خلاله حسم معركة "الوجود المنفرد".
واليوم، ولاول مرة في تاريخ لبنان تقوم سياسة لبنانية على الاتجاه عكس التيار التاريخي، فتبني مواقفها وتعتمد سياسة التطمين بدل التخويف وسياسة التفاهم بدل الصدام. لقد اثبتت سياسة التخويف من الآخر التي لطالما استخدمها الجميع ضد الجميع من اجل حفظ كراسيهم ومصالحهم ومؤيديهم، انها لم تؤدِ الى بناء وطن، ولم تصنع مواطنين، فلِمَ لا نجرب الصيغ الاخرى؟
لِمَ لا تقوم ولاول مرة في لبنان، سياسة على مد الجسور والتلاقي والتفاهم، وتدعو الفئات الى الاطمئنان بعضها الى بعض، فلا مبرر للمسيحي ان يخاف من المسلم ولا ان يخاف الشيعي من السنّي.... الكل مرتبط بنفس المصير، وما تخسره إحدى الفئات لا ينعكس بالضرورة ربحاً للآخرين، بل يمكن أن يُنظر اليه بأنه خسارة للوطن.
الى متى سيستمر بعض الساسة في تخويف أنصارهم من الآخرين، والى متى ستستمر "الادعاءات" التخويفية والدعوات الى استحداث مناطق طائفية "نقية"؟ لِمَ لا ننظر الى القوة التي يملكها احد الاطراف اللبنانيين بأنها قوة للجميع، وان المركب واحد ان ساهمنا بإغراقه سنكون أول الغارقين؟ الحقيقة، لقد سئم اللبنانيون طروحات التخويف، ومفردات الحرب الاهلية، والادعاءات بتفوّق الاصل والطائفة.. فهل يتعظ السياسيون قبل سقوط الهيكل على من فيه؟
الانتقاد/ العدد1325 ـ 23 كانون الاول/ ديسمبر 2008
"نحن" و"هم" تعبيرات وجودية حضارية برزت منذ فجر التاريخ، فمنذ بروز المجتمعات القديمة والحديثة تشكلت سياسة التخويف من الآخر التي ادت الى ما أدت اليه من الحروب والويلات والمآسي التي عبر عنها "سارتر" بكثير من الصدق في مقولته الوجودية: "الاخرون هم الجحيم".
اما في لبنان، فالمأساة أكبر، اذ ان الفئات اللبنانية بمجملها وخاصة الطوائف عاشت مآسي الاضطهاد الحقيقي في شرق طبعته الحروب والاحتلالات والاستعمار المتبدل الهويات والقيم، والذي مارس ابشع انواع الاضطهاد الديني والحضاري، لذا فإن كل فئة مكونة للمجتمع اللبناني عاشت تستمد من تاريخها ذكريات الاضطهاد والخوف على المصير الذي تعرضت له خلال تاريخها لتضفيه على حاضرها ولتورثه للاجيال اللاحقة.
حاولت كل فئة لبنانية خلال تاريخ لبنان العريق بالمآسي والحروب الطائفية والتعامل مع الخارج ضد الداخل، السير في ظواهر السعي الى إلغاء الآخر، بالاضافة الى تمجيد الأنا، وتورم "الذات" من خلال الاعتداد المبالغ به بالهوية الثقافية والاجتماعية المختلفة.... وهكذا عاش الجميع في خوف من الجميع، ونشأت حالات شاذة يفترض ان تكون غريبة على مواطنين يتشاركون نفس الفضاء الحيوي والجغرافي.
مارست كل فئة لبنانية عنصريتها على الاخرين، فرسمت للآخر صوراً من نسج خيالها، وحددته كما تتخيله او كما تريده ان يكون لكي تستطيع التخويف منه ولإكسابه صفة "الجحيم".
وبهذا المبدأ عاش المسيحيون اللبنانيون - كما باقي الطوائف - طويلاً، واستغل زعماؤهم الخوف التاريخي المزمن المستمد من الحقبة العثمانية التي غالت في التعصّب، واستخدمت الدين مبرراً لقمع الاقليات والحفاظ على السلطة، ثم أتت الحروب المذهبية التي غذاها الخارج طمعاً في موطئ قدم في لبنان بحجة حماية الاقليات المضطهدة لتزيد الطين بلة.
ولم يكن للاستقلال الذي حققه لبنان تغيير يذكر في السياسة التخويفية، بل جاء الاستقلال اللبناني بزعامات تقليدية اقطاعية بنت امجادها وزعامتها على الاستمرار في سياسة التخويف من الآخر "المختلف"، غذاها الحديث عن رفض الكيان بصيغته النهائية. ولم تكد الحرب تبدأ، حتى تفجر الخوف الوجودي المزمن تقوقعاً طائفياً خطيراً، واستحضرت كل طائفة خطاباتها وأدبياتها، وخوفها على الوجود والمصير، فغالت في الاستقواء بالخارج، وحلمت بقدرة خارجية ما تساعدها على الغاء الآخر اخيراً، بعد قرون من المد والجزر التي لم تستطع خلاله حسم معركة "الوجود المنفرد".
واليوم، ولاول مرة في تاريخ لبنان تقوم سياسة لبنانية على الاتجاه عكس التيار التاريخي، فتبني مواقفها وتعتمد سياسة التطمين بدل التخويف وسياسة التفاهم بدل الصدام. لقد اثبتت سياسة التخويف من الآخر التي لطالما استخدمها الجميع ضد الجميع من اجل حفظ كراسيهم ومصالحهم ومؤيديهم، انها لم تؤدِ الى بناء وطن، ولم تصنع مواطنين، فلِمَ لا نجرب الصيغ الاخرى؟
لِمَ لا تقوم ولاول مرة في لبنان، سياسة على مد الجسور والتلاقي والتفاهم، وتدعو الفئات الى الاطمئنان بعضها الى بعض، فلا مبرر للمسيحي ان يخاف من المسلم ولا ان يخاف الشيعي من السنّي.... الكل مرتبط بنفس المصير، وما تخسره إحدى الفئات لا ينعكس بالضرورة ربحاً للآخرين، بل يمكن أن يُنظر اليه بأنه خسارة للوطن.
الى متى سيستمر بعض الساسة في تخويف أنصارهم من الآخرين، والى متى ستستمر "الادعاءات" التخويفية والدعوات الى استحداث مناطق طائفية "نقية"؟ لِمَ لا ننظر الى القوة التي يملكها احد الاطراف اللبنانيين بأنها قوة للجميع، وان المركب واحد ان ساهمنا بإغراقه سنكون أول الغارقين؟ الحقيقة، لقد سئم اللبنانيون طروحات التخويف، ومفردات الحرب الاهلية، والادعاءات بتفوّق الاصل والطائفة.. فهل يتعظ السياسيون قبل سقوط الهيكل على من فيه؟
الانتقاد/ العدد1325 ـ 23 كانون الاول/ ديسمبر 2008