ارشيف من :أخبار عالمية
ساركوزي: عرس انجلى عن مأتم!
يحصل ذلك مرة لكل بلد عضو في الاتحاد الأوروبي كل ثلاثة عشر عاماً. إنها الرئاسة الدورية لعمل الاتحاد لفترة ستة أشهر، والتي كانت من نصيب فرنسا خلال الفترة بين أول تموز/ يوليو الجاري وآخر كانون الأول/ ديسمبر المقبل.
رئاسة من شأنها أن تسمح للرئيس ساركوزي بأن يجمع الرئاستين، الفرنسية والأوروبية، وأن يسعى جهده لتثمير الموقع بما يتناسب مع مطامحه الكثيرة.
وقد ابتهجت فرنسا أيما ابتهاج بالمناسبة، فجللت برج إيفل وقوس النصر وقصري الإليزيه وماتينيون بأعلام الاتحاد الأوروبي، وأقام ساركوزي أكثر من مأدبة للمفوضين الأوروبيين. كما أطلق التصريحات حول ما يتصوره شعارات تصلح لأن ترفعها فرنسا خلال فترتها الرئاسية. منها التواضع والإنصات إلى ما يقوله الآخرون والتحلي، خصوصاً، بمجانبة العنجهية، وإثبات القدرة على عقد التسويات في كتلة تضم 27 بلداً كلها يقدس الحق بالخصوصية والاختلاف بالتوازي مع الحرص على توثيق عرى الاتحاد. ولا يقتصر الأمر على العموميات الفضفاضة. إذ هنالك أولويات "ملموسة" يعتزم ساركوزي أن يعمل عليها: المناخ، والهجرة، والقدرة الدفاعية التي تتوقف عليها عودة فرنسا إلى مجلس قيادة الحلف الأطلسي المدمجة، والاتحاد من أجل المتوسط، والسياسة الزراعية المشتركة، ورفع مفاعيل ارتفاع أسعار النفط والغذاء عن كاهل الأوروبيين، واعتماد خطة لمحاربة مرض آلزيهايمر الذي يصيب ملايين الأوروبيين من غير المسنين، وتسهيل تنقلات الشبيبة الأوروبية بين بلدان القارة...
لكن يندر للكثير من الأفراح أن تكتمل، وللكثير من مشاريع الأحلام أن تنجو من كدر التنغيص. وهنا يصطدم الاستغراق في تجميل الآتي الذي لم يأت بعد، بمنغصات ماض يعود بكل ثقله ليلقي كلاكله على الحاضر: في العام 2005، تعرض مشروع الدستور الأوروبي لانتكاسة خطيرة بعد التصويت السلبي عليه من قبل كل من فرنسا وهولندا. وكان ساركوزي قد جعل من تجاوز المفاعيل السلبية لذلك التصويت على مستقبل الاتحاد، واحدة من أبرز أولويات معركته الانتخابية التي قادته إلى منصب الرئاسة الفرنسية. وبدلاً من مشروع الدستور الذي أصبح في حكم المعطل، كان الرئيس ساركوزي أبرز الرؤوس المدبرة لمشروع بديل "مخفف" لإصلاح المؤسسات الأوروبية وجعلها أكثر فاعلية، وذلك من خلال ما عرف باسم اتفاقية ليشبونه التي تمت الموافقة المبدئية عليها العام الماضي، على أن تقر نهائياً بعد عرضها على التصويت في كل بلد أوروبي على حدة، لتدخل حيز التنفيذ في مطلع العام 2009، شرط التصويت الإيجابي عليها من قبل جميع البلدان الأعضاء. لكن المحظور وقع في 12 حزيران/يونيو الماضي، حيث ردت إيرلندا على التحية السيئة التي بدرت عن فرنسا بحق الاتحاد الأوروبي، عام 2005، بتحية أسوأ منها بحق الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بحق فرنسا، وتخصيصاً بحق ساركوزي وأحلامه العريضة في ريادة إصلاح مؤسسات الاتحاد. صفعة مؤلمة عشية تسلم فرنسا للرئاسة الدورية خلال الأشهر الستة القادمة.
فرنسا، ومن ورائها معظم البلدان الأوروبية، تظاهرت بتجاهل وجه الخطورة في الحدث، ودعت، في محاولة واضحة لعزل إيرلندا، إلى مواصلة عرض المعاهدة على البرلمانات الأوروبية، على أمل أن تتراجع إيرلندا عن موقفها عبر تنظيم استفتاء جديد. أو من خلال إعطائها مهلة زمنية تنتهي بحلول تشرين الأول/أكتوبر لتقديم حلول بديلة. إيرلندا ردت بأن من المبكر التفكير بالحلول، ما يعني ترحيل بدء التنفيذ في مطلع 2009، أو حتى ترحيل المعاهدة وتهديد مستقبل الاتحاد. ألمانيا انزعجت من فكرة المهلة المشابهة للمهلة المشؤومة التي أعقبت التصويتين السلبيين الفرنسي والهولندي، والسويد حذرت من مغبة محاولات العزل. وفي حين كان الإحباط يدفع البعض إلى المكابرة بالقول بأن الاتحاد الأوروبي لم يمت بعد الـ"لا" الإيرلندية، وكأن شيئاً موجعاًً لم يكن، إذ بصفعة جديدة تدوي أصداؤها في ساحة الاتحاد. من بولندا هذه المرة. رئيس جمهوريتها ليش كازينسكي، الذي سبق له أن وافق على الاتفاقية في ليشبونة وتحمس لها، غير رأيه لأسباب داخلية تتعلق بفوز المعارضة بأكثرية مقاعد البرلمان الذي صوت بأكثريته لمصلحة المعاهدة. وأعلن، متسلحاً بالدستور الذي يعطيه الكلمة الأخيرة، بأنه لن يوقع على المعاهدة لأنها... بلا موضوع! وكان من الطبيعي لساركوزي أن يفقد أعصابه وأن يعرّض بنظيره البولندي بعبارات وردت فيها ألفاظ عن الأخلاق والشرف، نعتان أضاف إليهما رئيس المفوضية ضرورة أن يتحمل المسؤولون الأوروبيون مسؤولية خياراتهم، وأن يتمتعوا بالشجاعة السياسية واللهجة الصادقة... شأن ساركوزي. وبعد بولندا، غمست تشيكيا كفها في دماء المعاهدة. لم يقل رئيسها، فاكلاف كلاوس، وهو من كبار المتبرمين من فكرة المعاهدة بأنه لن يوقع عليها. لكنه أثار الذعر عندما قال انه قرأ تصريحات الرئيس البولندي بعناية شديدة وأعجبته أيما إعجاب. وذهب إلى حد الحديث عن اتحاد بلا اتفاقية ليشبونة مستئنساً في ذلك بعدم انهيار الاتحاد الأوروبي بعد الرفضين الفرنسي والهولندي اللذين أطاحا بمشروع الدستور. وبشيء من الخبث التطميني أكد أن ما يجرى ليس نهاية العالم، لأن بنى الاتحاد هي في غاية التعقيد ولا يمكن لها أن تكون مثالية على طول الخط. وعلى جمر الانتظار، ينتظر الأوروبيون، ورئيسهم ساركوزي للأشهر الستة، أن تفرغ المحكمة الدستورية التشيكية من النظر فيما لو لم تكن هنالك تعارضات بين المعاهدة ونصوص الدستور التشيكي. ما يعني أن قافلة المستنكفين باتت تضم إيرلندا وبولندا وربما، على الأرجح، تشيكيا، في وقت يكفي اعتراض واحد لإلحاق المعاهدة بسلفها مشروع الدستور. وهنالك قافلة أخرى، قافلة اليسار الفرنسي الذي لم يشأ ان يغيب عن المساهمة بشيء بمناسبة الرئاسة الفرنسة. فاليسار عنده أولويات، في المجال الاجتماعي، وفي خفض الانبعاثات الغازية والانحباس الحراري، مع التشديد على أولوية عدم التحاق فرنسا بركب السياسة الأميركية. وغير اليسار، أكثرية من الفرنسيين اعتبروا أنه لم يبق لساركوزي غير استخدام زوجته كارلا بروني في تلميع صورته السياسية المتحللة.
الانتقاد/ العدد1278 ـ 4 تموز/ يوليو 2008
رئاسة من شأنها أن تسمح للرئيس ساركوزي بأن يجمع الرئاستين، الفرنسية والأوروبية، وأن يسعى جهده لتثمير الموقع بما يتناسب مع مطامحه الكثيرة.
وقد ابتهجت فرنسا أيما ابتهاج بالمناسبة، فجللت برج إيفل وقوس النصر وقصري الإليزيه وماتينيون بأعلام الاتحاد الأوروبي، وأقام ساركوزي أكثر من مأدبة للمفوضين الأوروبيين. كما أطلق التصريحات حول ما يتصوره شعارات تصلح لأن ترفعها فرنسا خلال فترتها الرئاسية. منها التواضع والإنصات إلى ما يقوله الآخرون والتحلي، خصوصاً، بمجانبة العنجهية، وإثبات القدرة على عقد التسويات في كتلة تضم 27 بلداً كلها يقدس الحق بالخصوصية والاختلاف بالتوازي مع الحرص على توثيق عرى الاتحاد. ولا يقتصر الأمر على العموميات الفضفاضة. إذ هنالك أولويات "ملموسة" يعتزم ساركوزي أن يعمل عليها: المناخ، والهجرة، والقدرة الدفاعية التي تتوقف عليها عودة فرنسا إلى مجلس قيادة الحلف الأطلسي المدمجة، والاتحاد من أجل المتوسط، والسياسة الزراعية المشتركة، ورفع مفاعيل ارتفاع أسعار النفط والغذاء عن كاهل الأوروبيين، واعتماد خطة لمحاربة مرض آلزيهايمر الذي يصيب ملايين الأوروبيين من غير المسنين، وتسهيل تنقلات الشبيبة الأوروبية بين بلدان القارة...
لكن يندر للكثير من الأفراح أن تكتمل، وللكثير من مشاريع الأحلام أن تنجو من كدر التنغيص. وهنا يصطدم الاستغراق في تجميل الآتي الذي لم يأت بعد، بمنغصات ماض يعود بكل ثقله ليلقي كلاكله على الحاضر: في العام 2005، تعرض مشروع الدستور الأوروبي لانتكاسة خطيرة بعد التصويت السلبي عليه من قبل كل من فرنسا وهولندا. وكان ساركوزي قد جعل من تجاوز المفاعيل السلبية لذلك التصويت على مستقبل الاتحاد، واحدة من أبرز أولويات معركته الانتخابية التي قادته إلى منصب الرئاسة الفرنسية. وبدلاً من مشروع الدستور الذي أصبح في حكم المعطل، كان الرئيس ساركوزي أبرز الرؤوس المدبرة لمشروع بديل "مخفف" لإصلاح المؤسسات الأوروبية وجعلها أكثر فاعلية، وذلك من خلال ما عرف باسم اتفاقية ليشبونه التي تمت الموافقة المبدئية عليها العام الماضي، على أن تقر نهائياً بعد عرضها على التصويت في كل بلد أوروبي على حدة، لتدخل حيز التنفيذ في مطلع العام 2009، شرط التصويت الإيجابي عليها من قبل جميع البلدان الأعضاء. لكن المحظور وقع في 12 حزيران/يونيو الماضي، حيث ردت إيرلندا على التحية السيئة التي بدرت عن فرنسا بحق الاتحاد الأوروبي، عام 2005، بتحية أسوأ منها بحق الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بحق فرنسا، وتخصيصاً بحق ساركوزي وأحلامه العريضة في ريادة إصلاح مؤسسات الاتحاد. صفعة مؤلمة عشية تسلم فرنسا للرئاسة الدورية خلال الأشهر الستة القادمة.
فرنسا، ومن ورائها معظم البلدان الأوروبية، تظاهرت بتجاهل وجه الخطورة في الحدث، ودعت، في محاولة واضحة لعزل إيرلندا، إلى مواصلة عرض المعاهدة على البرلمانات الأوروبية، على أمل أن تتراجع إيرلندا عن موقفها عبر تنظيم استفتاء جديد. أو من خلال إعطائها مهلة زمنية تنتهي بحلول تشرين الأول/أكتوبر لتقديم حلول بديلة. إيرلندا ردت بأن من المبكر التفكير بالحلول، ما يعني ترحيل بدء التنفيذ في مطلع 2009، أو حتى ترحيل المعاهدة وتهديد مستقبل الاتحاد. ألمانيا انزعجت من فكرة المهلة المشابهة للمهلة المشؤومة التي أعقبت التصويتين السلبيين الفرنسي والهولندي، والسويد حذرت من مغبة محاولات العزل. وفي حين كان الإحباط يدفع البعض إلى المكابرة بالقول بأن الاتحاد الأوروبي لم يمت بعد الـ"لا" الإيرلندية، وكأن شيئاً موجعاًً لم يكن، إذ بصفعة جديدة تدوي أصداؤها في ساحة الاتحاد. من بولندا هذه المرة. رئيس جمهوريتها ليش كازينسكي، الذي سبق له أن وافق على الاتفاقية في ليشبونة وتحمس لها، غير رأيه لأسباب داخلية تتعلق بفوز المعارضة بأكثرية مقاعد البرلمان الذي صوت بأكثريته لمصلحة المعاهدة. وأعلن، متسلحاً بالدستور الذي يعطيه الكلمة الأخيرة، بأنه لن يوقع على المعاهدة لأنها... بلا موضوع! وكان من الطبيعي لساركوزي أن يفقد أعصابه وأن يعرّض بنظيره البولندي بعبارات وردت فيها ألفاظ عن الأخلاق والشرف، نعتان أضاف إليهما رئيس المفوضية ضرورة أن يتحمل المسؤولون الأوروبيون مسؤولية خياراتهم، وأن يتمتعوا بالشجاعة السياسية واللهجة الصادقة... شأن ساركوزي. وبعد بولندا، غمست تشيكيا كفها في دماء المعاهدة. لم يقل رئيسها، فاكلاف كلاوس، وهو من كبار المتبرمين من فكرة المعاهدة بأنه لن يوقع عليها. لكنه أثار الذعر عندما قال انه قرأ تصريحات الرئيس البولندي بعناية شديدة وأعجبته أيما إعجاب. وذهب إلى حد الحديث عن اتحاد بلا اتفاقية ليشبونة مستئنساً في ذلك بعدم انهيار الاتحاد الأوروبي بعد الرفضين الفرنسي والهولندي اللذين أطاحا بمشروع الدستور. وبشيء من الخبث التطميني أكد أن ما يجرى ليس نهاية العالم، لأن بنى الاتحاد هي في غاية التعقيد ولا يمكن لها أن تكون مثالية على طول الخط. وعلى جمر الانتظار، ينتظر الأوروبيون، ورئيسهم ساركوزي للأشهر الستة، أن تفرغ المحكمة الدستورية التشيكية من النظر فيما لو لم تكن هنالك تعارضات بين المعاهدة ونصوص الدستور التشيكي. ما يعني أن قافلة المستنكفين باتت تضم إيرلندا وبولندا وربما، على الأرجح، تشيكيا، في وقت يكفي اعتراض واحد لإلحاق المعاهدة بسلفها مشروع الدستور. وهنالك قافلة أخرى، قافلة اليسار الفرنسي الذي لم يشأ ان يغيب عن المساهمة بشيء بمناسبة الرئاسة الفرنسة. فاليسار عنده أولويات، في المجال الاجتماعي، وفي خفض الانبعاثات الغازية والانحباس الحراري، مع التشديد على أولوية عدم التحاق فرنسا بركب السياسة الأميركية. وغير اليسار، أكثرية من الفرنسيين اعتبروا أنه لم يبق لساركوزي غير استخدام زوجته كارلا بروني في تلميع صورته السياسية المتحللة.
الانتقاد/ العدد1278 ـ 4 تموز/ يوليو 2008