ارشيف من :آراء وتحليلات

اتفاق التبادل: دلالات وعبر في الوقت المطلوب

اتفاق التبادل: دلالات وعبر في الوقت المطلوب
كتب مصطفى الحاج علي
يأتي حدث تحرير الأسرى اللبنانيين في توقيت سياسي مفارق ومكتنز بالدلالات والعبر:
فهو، أولاً، يأتي متزامناً مع الذكرى الثانية لعدوان تموز، وكأن الزمن دار دورة كاملة ليفصح بكلمة فصل في هذا العدوان. من نافل القول، إن العدو الإسرائيلي برر عدوانه بعملية المقاومة التي أفضت في الثاني عشر من تموز للعام 2006 إلى أسر جنديين صهونيين بالرغم من مسارعتها إلى التأكيد بأن هدف العملية لا يتجاوز السعي إلى الضغط على هذا العدو لإطلاق ما تبقى من أسرى في سجونه. وقد وضع هذا العدو هدفاً أولاً معلناً لعدوانه هو إطلاق في هذين الجنديين، ليطور لاحقاً وبشكل متدحرج من أهدافه وصولاً إلى توجيه ضربة قاصمة للمقاومة في سياق تطبيق القرار 1559، وقد أطلقت عملية المقاومة آنذاك سجالاً داخلياً قاده على نحوٍ رئيسي فريق الموالاة، وعلى نحوٍ يطابق الموقف الإسرائيلي ويبرره، وصولاً إلى حد تحميل المقاومة مسؤولية ما جرى، وبدا لاحقاً أن هذا العدوان هو ترجمة عملية لجبهة دولية وإقليمية وداخلية واسعة، تكشف تهافت التبرير الذي قدم، وتكثيف حقيقة الدوافع والنوايا إلى تقف وراءه وتحركه.
ومع فشل العدوان، اندفعت هذه الجبهة في عمل منسق استهدف أمرين أساسيين، منع تثبيت انتصار المقاومة فيها، ومنع ترجمة هذا الانتصار سياسياً وعملياً، إلا أن هذه المهمة فشلت أيضاً، ليتكرس في المشهد السياسي والاعلامي والشعبي حقيقة انتصار المقاومة من جهة، وعري جبهة العدوان وانفضاحها من جهة أخرى، ومن ثم انتقلت حلقة التآمر إلى مرحلة جديدة عنوانها محاصرة المقاومة بالموانع والفتن المذهبية، لتحويلها إلى مشكل وعبء داخلي، يبرر البحث في شرعية سلاحها ودورها.
هذا المسار العام لتطور الأمور، يضعنا أمام حلقات مترابطة ومتصلة، إلا أن قاعدتها المركزية تنهض على إفقاد المقاومة من مبررات وجودها من خلال حرمانها من الجدوائية. بكلمة أخرى، إن منطق المقاومة القوي يجد نفسه أساساً في حجم الإنجازات التي تحققها، وفي هذا الإطار، لا بد من إعادة التذكير بجملة منها أبرزها: أولاً، إنجاز التحرير عام 2000 بدون أية التزامات أو شروط مقابلة. ثانياً: إثبات القدرة على إفشال العدوان، وبالتالي تثبيت معادلة ردع تحرم العدو من قدرته على شن عدوان جديد.
يقودنا هذا العرض إلى جملة دلالات رئيسية أبرزها:
أولاً: إن المقاومة فرضت نفسها وبقوة النتائج رقماً ثابتاً في معادلة حماية لبنان والدفاع عنه، وفي استرجاع الحقوق.
ثانياً: ان المقاومة أكدت جدوائية منطقها، ومصداقية وصدقية تعهداتها وتصوراتها، بما لا يدع أي مجالٍ للشك.
ثالثاً: إن المنطق الذي يحاول الاحتماء بمقولة الدولة ليدحض مقولة المقاومة هو منطق متهافت، لأن ما تقوم به المقاومة يصب في محصلته النهائية في تقوية أسس قيام الدولة ولا يناقضها، ما يعني، أن هذا المنطق الذي يحاول أن يصادم منطق المقاومة ليس له إلا وظيفة إجرائية واحدة هي ضرب المقاومة وليس بناء الدولة، وإذا كان من دولة يريد تشييدها فهي الدولة الضعيفة والملحقة والتابعة لا الدولة الحرة والسيدة المستقلة فعلاً.
بكلمة أخرى، يقوم منطق المقاومة على رؤية جدلية بين معركة الاستقلال الداخلي ومعركة التصدي لمشروع الهيمنة الصهيوني في المنطقة، في مقابل المنطق القائم على رؤية قاصمة لهذه الجدلية، والتي مؤداها النهائي تحييد لبنان سلبياً عن قضايا المنطقة، ووضعه في حالة تناقض مع واقعه الجيوسياسي الذي لا يستقيم تصوره إلا في أوهام البعض.
رابعاً: إن إنجاز التحرير هو عملية تصويب بمفعول رجعي لحقيقة عدوان تموز وأبعاده، بعد عمليات التشويه المتعمدة لهذه الحقيقة.
خامساً: إن إنجاز اتفاق التبادل، يشكل إدانة بمفعول رجعي لكل من وقف في وجه عملية المقاومة في 12 تموز.
سادساً: إن إنجاز هذا الاتفاق هو بمثابة إعادة تموضع وطني شامل لدور المقاومة، يؤكد مجدداً قدرتها على تجاوز كل عوائق الفتن المذهبية، وعمليات الحصار السياسي والاعلامي لموقعها ودورها.
سابعاً: لقد أكد اتفاق التبادل مجدداً منطق المقاومة القائل بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الإسرائيلي هي لغة القوة لا لغة الديبلوماسية والتسويات المذلة.
ثامناً: لقد وضع اتفاق التبادل العدو الاسرائيلي في حالة من التفاوض الذاتي بين ما يقرره ويقوله، وما ينفذه في النهاية، فالعدو انقلب على كل قيوده القانونية، واعتباراته المعنوية لإنجاز هذا الاتفاق.
تاسعاً: لن يجدي فريق الموالاة نفعاً التسلح بطي ملف الأسرى للذهاب إلى الدعوة إلى طي ملف المقاومة ودورها، لأن أقل ما يقال في هذا المنطق إنه يقلب النتائج إلى أسباب، والأسباب إلى نتائج، في حين أن أي عملية عقلنة لما جرى تدعو إلى تثبيت الأسباب لا إلى شطبها من المعادلة.
عاشراً: إن من ينظر في لائحة المواقف التي صدرت كرد فعل على إنجاز اتفاق التبادل وتحوله إلى حقيقة قانونية إذا جاز التعبير يمكن حصرها بثلاثة مواقف أساسية:
أ ـ موقف مؤيد بإطلاق وبدون أدنى تحفظ، ويدعو إلى أخذ كامل العبر الوطنية والسياسية مما جرى، وتحويلها إلى محطة للمراجعة وإعادة النظر.
ب ـ موقف مؤيد يتحفظ وبشيء من الغمز، هذا الموقف يحاول أن يجمع بين الإيجاب والسلب، إلا أن فحواه النهائية هي محاولة الالتقاء مع الانجاز، وهذه المسألة يمكن البناء عليها، إلا إذا كانت مجرد تكتيك يستهدف تبرئة الذمة مما لحق بها من تلوث سابقاً ولاحقاً، ولتصعيب أية عملية إدانة لاحقة له، بحيث يحوّل موقفه الايجابي إلى مرتكز للهجوم لاحقاً على سلاح المقاومة، إضافة إلى حرص هذا الطرف على تحسين صورته الخارجية، وللقول إن مشكلته مع المقاومة في محلٍ آخر، وهو قول منافٍ للواقع وللحقيقة معاً.
ج ـ موقف ممتعض ومنزعج، وهو موقف منسجم من حيث المبدأ مع عدائية أصحابه ليس للمقاومة فحسب، بل لمجرد فكرتها، هذا في جانب، وفي جانب آخر، فإن أصحاب هذا الموقف يخضعونه أيضاً لحساباتهم الانتخابية الضيقة، حيث يرون أن أي إنجاز للمقاومة هو إنجاز لعموم حلفائها وتقوية لتمثيلهم الشعبي.
حادي عشر: لقد أكد مضمون اتفاق التبادل المدى الإنساني والقومي لالتزام المقاومة، الذي استطاع أن يكسر القيود والاعتبارات المذهبية والجغرافية، ليؤكد حقيقة  المقاومة كحقيقة متجاوزة كلية وشاملة.
لا شك، إن عملية التبادل ستطلق فرحاً وطنياً، وهو فرح أشد ما نحتاجه اليوم لتجاوز كل الانقسام السياسي والفئوي، ولتأكيد حقيقة التلاحم الوطني الشامل، وهنا تكمن العبرة الرئيسية التي يجب أن يتعلمها الجميع.
الانتقاد/ العدد 1278 ـ 4 تموز/ يوليو 2008
2008-07-04