ارشيف من :آراء وتحليلات

بقلم الرصاص: لسنا نياماً بعد

بقلم الرصاص: لسنا نياماً بعد
كتب نصري الصايغ
أين تنام!
ـ على حجر دافئ أغفو، أتدثر بأحلامي وأغفو.
أين تنام؟
أتوسد حنيناً، هل التحفت بتراب نقي يوماً؟ هناك أنام.
وأمك أين نامت؟
سهرت حتى كلّ الناس في عينيها أغمضتهما على جرحي وغفت.
أين تنام أمك؟
لا تنام، تسهر على دمي، وتحرسه في برودة، تضع في شرايينها دمي، وتوصي التراب باحتضاني، كي لا ينالني برد العالم، حيث للشمس صقيع مصفح، وعيون عارية في الضوء، وأظفار تنشبها في اللحم..
وماذا أيضاً؟
قالت لي أمي قبل أن أغفو على ما تبقى من ثديها: الصحراء باردة يا بني، إذا شعرت بنوبة برد، التصق بالتراب، وغزة من تراب أصيل، وعروق نابضة، وجذور ضاربة، وتفضل أن تكون السماء سمراء، بلون الأرض.. الأزرق يا ولدي ليس لنا، البحر صدر من زنجار والسماء مستودع لقصاص يطاردنا منذ نجمة المساء الأخير..
وأبوك أين ينام؟
حدثني أبي عن أمي قال: نحن لسنا من هذا العالم، ولا مكان نقيم فيه كما يقيم الآخرون، أخذوني الى قيودي، بعد ولادتي بأيام، وأدخلوني كبهيمة الى مأوى من حديد ورصاص، حاولوا تلقيني أنني لست ابناً لأحد ولست أباً لأحد، وأنني غير موجود.. لم يصدقوني. قالوا لي: أنت لست موجوداً وعليك أن تتغيب، وهكذا، تغيبت عنكم أزمنة، لا لم ألق سجيناً كنت معدوماً، ولما قررت ألا أتغيب، أقمت ما بين الزناد والقلب وراهنت على جدوى التعب، وعرق البكاء، وألوية الزحف.
وأبوك أين ينام؟
أبي لا ينام، مستغرق في كتابة موته المضيء، ينشر نصوصه تحيات دمه، وياقوتة القلب، مستغرق في تأليف النص الأخير ولمّا ينته بعد، يزورني ويلقنني كيف أحب، يدس في موتي أمل الحياة، يشيعني الى قلبي، ويمسد زندي بزيتٍ فلسطيني، ويطهر جراحي بنذور القدس، وبشارة بيت لحم، وعندما أغفو على قافية موته، تتزن فلسطين وتتحول الى ما يشبه العرس، بقامة الخليل.
ألا ينام أبوك أبداً؟
لا وقت لديه، موته يشغله، خرج من زمنه العادي، ككل الآباء الذين صوّبوا أصابعهم الى العدم الإنساني، كي يحثّوه على الشعر والشعور والمشاعر، أدهشهم أن العالم الإنساني فقد بصره وقلبه معاً، أدهشهم أنه يتحرك وهو ميت جداً، ميت بما لا طاقة لأي موت على احتماله، عالم إنساني مفرغ من وقت إنساني، عالم من كلام يرثه كلام، يفيض كلاماً، يثرثر كلاماً، عالم أبيض مسحور بلا معناه، أبيض كسول، أبيض بلا نقاء، أبيض كفراغ.
أين هو الآن؟
أبي مشغول جداً، لم يقل عندما زارني آخر مرة، إن كان نخلة أو زيتاً، أبلغني أنه سيعود، لعله اليوم في غزة، يطمئن على مئات الركام فيها، يودع شهداءها، يوزع الأرغفة المفقودة، على أطفال مؤجلين، يداوي الأمم المتحدة بالإشفاق عليها، وينظر الى خطابات مجلس الأمن بغير اكتراث، ويقرأ المعلقات العشر ولا يجد ستاراً من كعبة الروح أو، لعله يبحث عن عربي ما، يقول كلاماً عربياً، ويفهم كلاماً عربياً "حي على خير العمل".
وإخوتك أين ينامون؟
فرشوا لي ناحية الزيتون، مئذنة وكنيسة، يتناوبون على الصلاة فيها، ويؤجلون إغماضة العيون، إنهم بين الفاتحة وبسملة التكوين يعقدون حول طاولة الجوع مأدبتهم، ويهيئون لفلسطين عشاءها السري، إذ بعد ثلاثة أيام أو عقود أو أزمنة ستقوم، وإخوتي يتناوبون على حراسة الزمن، كي تدخل فلسطين الى يوم زفافها، فتشتعل الأرض  حباً لها.
ألستم أمواتاً؟
بل أحياء عند شعبنا يرزقون، وما زلنا على موعد الحسم، سنقاتل بموتنا الى ما بعد قيامتنا، إن موتنا إنساني جداً، ورائع جداً بحجم ألمه، ونحافظ عليه كي يكون ملاذنا الوطني، ريثما تنبت من الشهادة شجرة الحياة.. ليس عندنا، حتى اليوم غير هذا المعراج الدامي، سلكناه بجدارة أخلاقية، إقامتنا في هذا العالم اللاإنساني لم تكن جديرة بنا.
أنا هنا، أنام على حجر دفأته بدمي.
أمي معي، تنام على جرح، يثرثر لها أحلاماً مدهشة.
وأبي معي، ينامون على أمل قيامة فلسطين.
فلا تبكوا علينا، دموعكم لا تشتري لنا خبز البقاء، حوّلوا دموعكم الى قبضات مرتعشة وراجفة وقوية، واقذفوا بها وجه هذه البشرية المشوهة، علينا أن نعيد صياغة العالم، بطريقة أخرى.
ففي اليوم الذي يصبح فيه البشر فلسطينيين، يصير العالم جميلاً.. منتصب القامة يمشي.
الانتقاد/ العدد 1328 ـ 9 كانون الثاني/ يناير 2008
2009-01-09