ارشيف من :أخبار لبنانية
"عنجر" تحتفظ بالكثير من أسراراها حتى اليوم بانتظار المهتمين

تعتبر مدينة "عنجر" الاثرية الواقعة على بعد ثمانية كيلومترات من مدينة زحلة نموذجا للمحطات التجارية الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ القديم والوسيط حيث اقيمت على مقربة من اهم منابع وروافد نهر الليطاني في موقع مهم على خارطة الطرقات التي كانت تخترق البقاع في الازمنة الغابرة .
وعلى الرغم من موقعها المميز الا انها تختلف اختلافا جذريا عما سواها من المواقع والمدن الاثرية الاخرى في لبنان, فعلى عكس صور وصيدا وبيروت وجبيل او طرابلس وبعلبك التي شهدت تسلسلا تاريخيا متواصلا منذ انشائها حتى اليوم, تعاقبت فيه الحقب والثقافات بشكل قل مثيله فان "عنجر" تبدو وكانها منشاة عابرة لم تعش اكثر من بضع عشرات السنوات في بدايات القرن الثامن الميلادي ولعل السبب يعود الى العهد الذي انشئت فيه ومات بمساوئه وهو العصر الاموي فماتت بموته, وباستثناء مسجد بعلبك الاثري الكبير الذي بني في الفترة نفسها واعيد ترميمه منذ بضع سنوات فان "عنجر" تشكل الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخ بنائه الى العصر الاموي .
يشكل موقع "عنجر" عقدة رئيسية تلتقي عندها الطرق التي كانت تصل مناطق سوريا بشمال فلسطين وتلك التي كانت تصل الساحل بغوطة دمشق, وقد اسهم في ازدهارها في العصور القديمة والوسيطة والحاضرة وجود عين مياه غزيرة تتفجر عند سفوح جبال لبنان الشرقية وهي العين التي اعطت المدينة اسمها الحالي حيث اطلق على تلك العين اسم "عين جرا" نسبة الى "جرا" وهي حصن قديم ورد ذكره في ايام الاسكندر المقدوني أي في العصر المتاغريقي او الهلنستي .
وعلى الرغم من انشغال الامويين بادارة شوؤن الامبراطورية التي توسعت الا انهم ابقوا على الروابط بالقبائل البدوية التي كان لها فضل في توسيع نفوذهم.
ورغبة منهم في البقاء على اتصال بهذه القبائل اقام الخلفاء على تلك التخوم مضارب للصيد والاستجمام ما لبثت ان تحولت الى مستقرات مشيدة بالحجر وتلعب دورا متشعب الوجوه فكانت تلك المنشات قصورا وقلاعا من جهة ومراكز تجارية وزراعية من جهة اخرى وتجلب البدو الى التحضر والاستقرار .
وفي ظل هذه السياسة التي انتهجها الامويون امر الوليد بن عبد الملك بانشاء مدينة "عنجر" المحصنة على بعد نحو كيلومتر واحد من النبع المعروف بـ (عين جرا) ولتنفيذ مشروعه استعان بعدد من المهندسين والحرفيين والصناع البيزنطيين والسوريين العارفين بتقاليد العمارة والزخرفة القديمة الموروثة من ايام الرومان والاغريق, واستخرج هؤلاء الحجارة اللازمة للمشروع من عدد من المقالع المجاورة كمقالع بلدة كامد اللوز كما نقلوا اعدادا من العناصر البنائية الاخرى كالاعمدة وقواعدها وتيجانها من بقايا الابنية الرومانية والبيزنطية التي عثروا عليها في جوار الموضع الذي كان يقوم فيه حصن "جرا".
لم تدم حياة عنجر طويلا بعد وفاة مؤسسها حيث دمرها مروان الثاني سنة 744م على اثر انتصاره على منازعه ابراهيم ابن الوليد في معركة دارت رحاها بالقرب من "عنجر".
وما لبثت القلعة والمدينة ان بدات تتداعى حتى تحولت في القرن الرابع عشر الى تلال من الاطلال والتراب وسط مساحات كبيرة من المستنقعات وظلت على هذه الحال حتى سنة 1943حين بدات مديرية الاثار في الجمهورية اللبنانية عملية استكشافها .
وعلى الرغم من ان الحفريات الاثرية واعمال الترميم قد تناولت موقع "عنجر" منذ الخمسينات الا ان الموقع ما زال يحتفظ ببعض اسراره من حيث علاقته بحصن "عين جرا" .
عنجر اليوم تحتل موقعا سياحيا مهما في لبنان اذ انها تقع في منطقة البقاع التي تعتبر مصيفا مهما وتكثر فيها البساتين المثمرة والاشجار الباسقة اضافة الى البرك والبحيرات التي يربى فيها سمك الترويت الذي يشكل الوجبة الرئيسية في المطاعم التي انتشرت بكثرة فيها والتي تشكل عصب الحياة لاهالي "عنجر".



تحقيق وتصوير: عصام البستاني