ارشيف من :أخبار عالمية

خاص الانتقاد.نت: ازمة الغاز الروسية ـ الاوكرانية

خاص الانتقاد.نت: ازمة الغاز الروسية ـ الاوكرانية
صوفيا ـ جورج حداد
خلال فترة العدوان الاسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني المظلوم في غزة، كان العالم يشهد ازمة كبيرة اخرى، كانت مرشحة، لولا "عقبة غزة"، ان تتحول الى صدام عسكري ايضا، ونعني بها ازمة الغاز بين روسيا واوكرانيا. فمن المعلوم ان العديد من دول الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي السابقين، ومنها اوكرانيا، كانت تعتمد في استهلاكها من الغاز على روسيا السوفياتية سابقا، وكانت شحنات الغاز الروسي تتم مجانا، او باسعار رمزية جدا شبه مجانية، وذلك على حساب الاقتصاد الروسي ذاته. كما ان اوكرانيا هي ممر ترانزيت رئيسي للغاز الروسي الى بلدان اوروبية شرقية وغربية اخرى. وكانت اوكرانيا تستفيد استفادة كبرى من هذه العلاقة، حيث انها، من جهة، كانت تحصل على حاجتها من الغاز باسعار شبه مجانية، ومن جهة ثانية، كانت تحصل على رسوم ترانزيت للغاز المار بأراضيها، باسعار سعر البيع الفعلي، خصوصا لاوروبا الغربية. ومع ان الفارق البسيط الذي يبقى بين المتوجبات على اوكرانيا مقابل استهلاكها الخاص من الغاز واستحقاقاتها من رسوم الترانزيت، هذا الفارق لم يكن يشكل سوى مبالغ بسيطة سنويا، بالحساب العام للاقتصاد الوطني الاوكراني، فإن السلطة الاوكرانية الجديدة الموالية للغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اخذت تماطل في دفع تلك المتوجبات، حتى بلغت في سنة 2008 حوالى 2،5 مليار دولار. وقد انتهجت السلطة الاوكرانية سياسة ابتزازية حيال روسيا، عن طريق التهديد بالانضمام الى حلف الناتو واقامة قواعد عسكرية اميركية على اراضيها معادية لروسيا. وكان احد اهداف هذا الابتزاز اجبار روسيا على التنازل عن حقوقها في صفقات الغاز. ولكن روسيا ردت على ذلك ردين:
1ـ رد عسكري، بالتهديد بسحق اي بلد مجاور تقام فيه قواعد عسكرية اميركية او اطلسية في حال تعرض الامن القومي الروسي للخطر. وكان التحرك الروسي السريع والحاسم خلال الازمة مع جورجيا في آب/ أغسطس 2008 ترجمة عيانية لهذا التهديد، اذ لولا التدخل الاوروبي والوساطة الفرنسية لكانت الدبابات الروسية اكملت نزهتها فوق القصر الجمهوري في تفليس.
2 ـ رد اقتصادي، حيث باشرت روسيا ببناء خط انابيب غاز قاري يمر من روسيا مباشرة عبر قاع البحر الاسود الى بلغاريا، ومنها الى اليونان وصربيا وغيرهما من البلدان في اوروبا الشرقية والوسطى والغربية. وسمي هذا الخط "السيل الجنوبي"، وقد وقع الرئيس السابق بوتين الاتفاقات بشأنه مع بلغاريا خلال زيارته للعاصمة البلغارية صوفيا في كانون الثاني 2008.
اي ان روسيا تخطط، ضمن حساباتها الاقتصادية ـ السياسية العامة، للتخلي عن استخدام الاراضي الاوكرانية للترانزيت، فتتحرر من الابتزاز السياسي ـ الاقتصادي ـ العسكري الاوكراني، من جهة، وتجعل سعر الغاز اكثر مرونة بتحريره من رسوم الترانزيت الاوكرانية، من جهة ثانية.
وفي السنة المنصرمة طالبت روسيا بحزم بتسديد المستحقات المتوجبة لها على اوكرانيا والتي بلغت 2،5 مليار دولار كما اسلفنا، حتى تستمر بتزويد اوكرانيا بالغاز، وعرضت ان تحسم من المبلغ كامل مستحقات اوكرانيا على الترانزيت لسنة 2009 مسبقا. كما طالبت ـ اي روسيا ـ باعتماد سعر السوق من الان فصاعدا وهو حاليا 418 دولارا لـ1000متر مكعب من الغاز المسيل. ولكن اوكرانيا رفضت هذه العروض، واصرت على الحصول على سعر خاص لا يتجاوز 250 دولارا. وجرت طوال السنة مفاوضات متقطعة، تميزت بالمماطلة من الجانب الاوكراني. واخيرا اعلنت شركة "غازبروم" الروسية انه في حال عدم تسديد الديون الاوكرانية والقبول بسعر السوق لتوريد الغاز الى اوكرانيا، فإن الشركة ستوقف شحن الغاز الى اوكرانيا في مطلع سنة 2009. ولكن اوكرانيا لم تعط الاهتمام الكافي للتهديد الروسي، مما يدل على الرغبة في تأزيم الخلاف وتفجيره. ويقول بعض المراقبين ان اوكرانيا كانت تهدف الى الذهاب بالنزاع الى حد الاصطدام المسلح وتخريب انابيب الغاز وقطع الغاز لامد طويل عن اوروبا، لاجل عزل روسيا واستعداء الدول الاوروبية ضدها.
ولكن العدوان الاسرائيلي على غزة، وصمود المقاومة الفلسطينية، افشل مخططات تحويل خلاف الغاز الروسي ـ الاوكراني الى نزاع مسلح، لانه لو حدث ذلك، لظهر في الميدان موضوعيا خط تصادم مسلح دولي ترتسم فيه ملامح "معسكرين": اميركا ـ اسرائيل ـ الاطلسي ـ اوكرانيا، من جهة. و: روسيا ـ ايران ـ المقاومة الفلسطينية ـ المقاومة اللبنانية ـ سوريا، من جهة ثانية. مما هو ليس في مصلحة المعسكر الغربي، وقد يضطر الدول العربية والاسلامية "المعتدلة" ذاتها، كالسعودية وتركيا وباكستان، لانتهاج خط "معاد لاميركا واسرائيل" و"متقارب مع روسيا وايران والمقاومة الفلسطينية واللبنانية".
وهكذا بقيت الازمة الروسية ـ الاوكرانية محصورة ضمن النطاق الاقتصادي ـ السياسي. وبالفعل ففي الساعة التاسعة (بتوقيت موسكو) من صباح 1/1/2009 اعلنت شركة "غازبروم" الروسية ايقاف شحن الغاز الى اوكرانيا، مع الاستمرار في شحن الغاز المار ترانزيت الى اوروبا عبر الاراضي الاوكرانية. ولكن عمليا توقف شحن الغاز الترانزيت الى الدول الاوروبية الاخرى ايضا. وفي مدينة صوفيا، عاصمة بلغاريا، مثلا، وبالرغم من الطقس البارد جدا (حيث بلغت درجات الحرارة 20 تحت الصفر) جرى تخفيض معدلات درجات التسخين في انظمة التدفئة المركزية، كما جرى توقيفها تماما عدة ايام، لاجل الانتقال من نظام التدفئة المركزي على الغاز، الى نظام التدفئة على المازوت، الذي سحب من مخزون الطوارئ الستراتيجي للدولة، وخلال فترة التوقف اعطيت الاولوية لاستمرار التدفئة للمستشفيات ودور العجزة وذوي الاحتياجات الخاصة وروضات الاطفال والمدارس الابتدائية. ولكن المواطنين عانوا تماما من هذه الازمة، ولولا تداركها لكان من المحتمل ان تؤدي الى تفجير ازمة اقتصادية وسياسية كبرى. وبدأت حينذاك الاتهامات بين روسيا واوكرانيا، حيث قالت روسيا ان اوكرانيا اخذت تسرق الغاز المخصص للبلدان الاوروبية الاخرى، في حين ان اوكرانيا نفت هذه الاتهامات، واتهمت روسيا بالكذب. وبين الاتهامات والاتهامات المضادة، قدرت خسائر شركة "غازبروم" في هذه الازمة باكثر من ملياري دولار. وقد جرت مفاوضات روسية ـ اوكرانية جديدة، تحت ضغط اوروبي عام، واتفق البلدان على النظر في حل الخلافات، وعلى وضع مراقبين اوروبيين على عملية مرور الغاز الروسي عبر الاراضي الاوكرانية الى اوروبا.
وتقول وكالة رويترز ان الخلاف الروسي ـ الاوكراني قد حرك من جديد مشروع انشاء خط انابيب الغاز المسمى "نابوكو" الذي من المتوقع ان يحصل على الغاز من بلدان اسيا الوسطى وينقله عبر الاراضي التركية والبلقان الى مختلف البلدان الاوروبية، للاستعاضة عن الغاز الروسي. وسيكلف بناء هذا الخط 10 مليارات يورو.
وسيجري اليوم في البرلمان الهنغاري احتفال خاص بمناسبة عقد اجتماع على مستوى عال لممثلي الدول المشاركة  في مشروع خط انابيب نابوكو.
ومعلوم ان ثلثي طول خط الانابيب، اي 3300 كلم تمر عبر الاراضي التركية. وبالاضافة الى تركيا تشارك في هذا المشروع بلغاريا، المانيا، رومانيا، هنغاريا والنمسا. وتدعم هذا المشروع اميركا، لدواع ستراتيجية اهمها تقليص العلاقات الاوروبية ـ الروسية وخاصة التقليل من اعتماد اوروبا على الغاز الروسي.
وقد ادى النزاع الروسي ـ الاوكراني الى رفع اهمية تركيا في هذا المشروع. وتطالب تركيا بالحصول على 15% من الغاز المار عبر اراضيها، ما عدا رسوم الترانزيت، وذلك من اجل تأمين الشحنات الخاصة بها. ولكن كونسورسيوم "نابوكو" والاتحاد الاوروبي يعارضان الطلب التركي، ويعتبران ان تركيا هي بلد ترانزيت فقط. ولكن ممثل الحكومة التركية يقول "ان ازمة الغاز (اي بين روسيا واوكراني التي ادت الى وقف الشحن الى اوروبا) سوف تدفع الدول الاوروبية لاعادة النظر في مواقف تركيا بما يخص المشروع (اي مشروع نابوكو)، بما في ذلك حجم الشحنات بعد اقتطاع رسوم الترانزيت".
وهكذا تجد الدول الاوروبية نفسها امام خيارين كلاهما صعب:
ـ اما الاستغناء عن "خدمات الترانزيت غير المضمونة" لاوكرانيا، ودعم المشروع الروسي الكبير، لمد انبوب الغاز "السيل الجنوبي"، والوقوع تحت الوصاية الروسية (بالطاقة).
ـ واما الوقوع تحت الوصاية الاميركية ـ التركية (بالطاقة) عبر الاعتماد على مشروع "نابوكو". هذا مع العلم ان دول اسيا الوسطى (اذربيجان وغيرها) التي من المفترض ان تزود نابوكو بالغاز هي محدودة الامكانيات، والمخطط ان يتم التعاون (اذا امكن) مع ايران والعراق لاحقا لتعويض النقص في الغاز.
وبكلتا الحالتين أوروبا أما خيار واحد إما روسيا مباشرة وإما روسيا بالمواربة.
2009-01-28