ارشيف من :ترجمات ودراسات

الولايات المتحدة والتحولات الاستراتيجية في المنطقة: الأولويات... والمهام

الولايات المتحدة والتحولات الاستراتيجية في المنطقة: الأولويات... والمهام
مصطفى الحاج علي
يمر العالم العربي في مرحلة انتقالية سمتها الرئيسة حالة من انعدام اليقين بالمستقبل. حالة عدم اليقين هذه يمكن ردها الى مجموعة كبيرة من الأسباب، يبقى أبرزها التالي:
أولاً: الأسباب المعقدة التي تقف وراء الانتفاضات، وهي أسباب يتفاعل فيها الداخلي مع الخارجي الى أقصى الحدود. فالفساد السياسي، والترهل الاقتصادي، والتسلط العام، والعجز عن الانتقال بالاوضاع من واقع التفسخ الاجتماعي الى واقع الاندماج الوطني، يضاف اليها عامل الهيمنة الاستعمارية الغربية الاميركية تحديداً، والعامل الصهيوني ممثلاً بالكيان الاسرائيلي، وما نتج عنهما من عملية استنزاف للمقدرات والموارد والكرامات، كلها عوامل وأسباب ساهمت وتساهم في حدوث الانتفاضات الحالية.
ثانياً: الانهيار السريع والمفاجئ لبعض النظم العربية كما هو حال النظامين المصري والتونسي ومؤخراً الليبي، الذي استطاع أن يصمد لأشهر عدة وسط جر البلاد والعباد الى حرب مدمرة داخلية، وفتح الباب واسعاً أمام التدخل الأجنبي.
ثالثاً: بقدر ما تتنوع العوامل المفضية الى حدوث الانتفاضات الأخيرة، فإن القوى المؤثرة في تحديد وجهة المستقبل متنوعة ومتباينة الى حد كبير، وهذه يمكن تصنيفها في العنوان العام الى صنفين: قوى وعوامل داخلية، وهذه تتشكل من طيف واسع من الأفرقاء السياسيين والفاعلين الاجتماعين، بدءاً من الحركات الاسلامية بأطيافها المتنوعة ومروراً بالاتجاهات الليبرالية والعلمانية، وليس انتهاءً بالفاعلين من ضمن مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني على أنواعها، هذا الى جانب بقايا قوى النظام البائد، وأصحاب المصالح المرتبطة به، والمؤسسات العسكرية والأمنية التي حافظت على وزنها ودورها من خلال عدم قدرة أي طرف على تجاوز خصوصيتها.
وهناك القوى والأطراف الدولية والاقليمية المعنية مباشرة بالإمساك بصورة مستقبل وجهة حركات التغيير، وبما يخدم مصالحها، وهنا يحضر تحديداً الدور الاميركي والاسرائيلي ومنظومة الدول التي ترتبط عضوياً ومصالحياً بمرتكزات النظام الاقليمي السابق.
ولا شك، أن الصورة النهائية ستكون خلاصة وانعكاسا مباشرا لتوازنات القوى التي ستستقر عليها هذه الانتفاضات، وهذا بدوره يحتاج الى وقت.
رابعاً: إن حالة الانهيارات في المنطقة لا تأخذ شكلاً واحداً أو صورة واحدة، فهناك حالات انهار فيها النظام بالفعل كما في حالتي مصر وتونس، وهناك حالة انهيار جاءت نتيجة حرب عسكرية كما هي حال النظام الليبي، وهناك حالات شهدنا فيها انهيارا معنويا كما هي حال النظام البحريني، في حين نشهد حالة مركّبة في اليمن، أي مزيجا من المسار العسكري والمسار الشعبي من دون الوصول الى نتيجة نهائية حتى الآن، أما ما يحدث في سوريا فيبقى له مساره الخاص، وخصوصيته، والتباساته، نتيجة عوامل كثيرة لا مجال لذكرها الآن.
خامساً: ان بعض نتائج العبر التاريخية لا سيما في القرن الفائت، تثبت ان الثورات أو بعضها على الأقل "يظهر ميلاً ثابتاً للاطاحة بصورة من صور الطغيان، ليستبدل بها صورة من الطغيان".
سادساً: القضايا التي تشكل محور عمليات التغيير تتراوح بين الاصلاح السياسي والاقتصادي والأمني، وقضايا التحرر الوطني من التبعية والاستعمار والاحتلال. وهذه القضايا متشابكة ومتداخلة الى أقصى الحدود ولا يمكن التفكيك بينها، او وضعها في ترتيب عَمُودي. فلا يمكن الفصل بين الاصلاح السياسي والاصلاح الاقتصادي، اذ طالما شكلت البنية الاقتصادية مدخلاً موارباً لاعادة انتاج الهيمنة، والتخريب على الاصلاح السياسي، والعكس صحيح أيضاً.
كل ما تقدم، يؤكد مدى دقة المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة، والتي يفاقم منها عوامل اضافية، أبرزها:
أولاً: الوضع الدقيق الذي يمر به مشروع الهيمنة الاميركية في المنطقة بدءاً من افغانستان، وليس انتهاءً بالعراق. هذا اضافة الى الانشغال الاميركي بالأزمة الاقتصادية البنيوية، والدخول في وقت الانتخابات، والحاجة الى تركيز على المعضلة الاقتصادية والابتعاد عن أي تورط في حرب جديدة.
ثانياً: تداعيات أزمة مشروع الهيمنة الاميركية على حلفائها في المنطقة، وسط تنامي ـ لدى بعضها ـ مشاعر من انعدام الثقة بأن واشنطن يمكن أن تدعمها الى النهاية، ما يدفعها الى اتخاذ خطوات منفردة لضمان استمرار ديكتاتورياتها.
ثالثاً: تداعيات الأزمات الاميركية على النظام الدولي بالاتجاه الذي يفتح هامشاً كبيراً أمام العديد من القوى العظمى، أو القوى الدولية والاقليمية الصاعدة، للعب دور مهم، مستفيداً من قدرتها على الاستقلال بمواقفها خدمة لمصالحها.
رابعاً: الوضع المعقد الذي يجد فيه الكيان الاسرائيلي نفسه، فهو موزع الاهتمامات بين مشاكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وتحدي اعلان الدولة الفلسطينية وتفعيل عمليات المقاومة فلسطينياً، والتغييرات العميقة التي تشهدها بيئته الاستراتيجية المحيطة به، والتي كان لحرق العلم الاسرائيلي مؤخراً في مصر انذاره الكبير بالنسبة اليه، يضاف اليه هاجسه الأكبر، وخوفه المتعاظم من تنامي قوة ايران، وقوة حركات المقاومة في المنطقة، وعلى رأسها قوة المقاومة في لبنان.
هذه الاعتبارات تفرض على الولايات المتحدة ترتيباً للأولويات وفق التالي:
أولاً: اعتبار تنامي قوة ايران اولوية اساسية لأكثر من سبب: منها ما يعود الى قطع الطريق عليها لكي لا تلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً في حركة الانتفاضات التي تحدث، ومنها ما يعود الى احتواء تأثيرها داخل حدودها كمقدمة لاسقاط النظام فيها، والتخلص من دورها الفاعل في افشال مشروع الهيمنة الاميركية على ثروات المنطقة لا سيما النفط.
ثانياً: محاولة اضعاف محور المقاومة من خلال تفكيك حلفائه، واستنزاف كل منها في مشاكل داخلية، ومواجهات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية متسلسلة تبدأ ولا تنتهي. في هذا الاطار، يمكن وضع ما يقوم به الفريق الاميركي في لبنان، وما تخطط له واشنطن لدمشق، تحت استراتيجية "كرة الثلج".
ثالثاً: حماية أمن الكيان الاسرائيلي كأولوية مطلقة، وتوفير كل الأسباب اللازمة لذلك.
رابعاً: قطع الطريق على الدول المنافسة لها من مدخل الاستفادة من الظروف التي تمر بها المنطقة، ومن الوضع الدقيق الذي تمر به واشنطن، والذي يجعلها أشبه بالبطة المشلولة.
خامساً: الدخول على خط الانتفاضات للتأثير في مسارها ووجهتها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية من تغطية وسواها وفق الترتيب الآنف، وذلك كجزء أيضاً من سياسة تحسين الصورة.
كل ما تقدم، يؤكد ان المنطقة قد دخلت في مخاض صعب ومعقد ومتشابك، والمواجهات فيه متنوعة ومتعددة، ويتداخل فيها البعد الوطني بالبعد التحرري، والداخلي بالخارجي، وهي مواجهات تختلف من جبهة الى اخرى، ومن بلدٍ الى آخر، ما يعني ان معايير مقاربتها يجب ان تكون مختلفة، بقدر ما يجب ان نفكك بين البعد الوطني لمسألة التغيير والبعد الخارجي الذي لا يعمل الا على محاصرة البعد الوطني بالتباسات لا تخدم الا مصالحه.
ان المرحلة الحالية تقتضي ـ كما يظهر ـ اميركياً اغراق المنطقة بأسرها في حالٍ من الفوضى العارمة، شراءً للوقت، وانتظاراً لتغيير الظروف، ولكونها الحال الأفضل لملء الفراغ وقطع الطريق على اصحاب المصالح الحقيقية بالتغيير أي قوى التحرر الوطني، ولذا، فالمطلوب اميركياً استنهاض كل أدواتها، وأوراقها في هذه اللعبة العامة، فكل شيء يجب ان يزج في المعركة حتى لا تقع الخسارة العامة.
2011-09-09