ارشيف من :أخبار عالمية
قمة توياكو: مشاكل الفقراء بانتظار حلول الأغنياء

كتب عقيل الشيخ حسين
قمة البلدان الصناعية الثمانية التي انعقدت العام الماضي في منتجع هابلغندام الألماني، خرجت بنتيجة مفادها أن الاقتصاد العالمي في وضع جيد. أما قمتها التي تنعقد الآن، من الاثنين إلى الأربعاء (7ـ9/2008)، في منتجع توياكو الياباني، فإنها لم تصل بعد إلى إخراج بيانها الختامي الذي يمكن وضعه من الآن تحت عنوان من نوع "جيد ولكن..."، مع توليفة من عبارات بذل الجهد والتحلي بالتفاؤل والأمل. ومهما بلغ مستوى التطمين في تلك العبارات، فإنه لن يغير شيئاً من الواقع المتمثل، بين المنتجعين الألماني والياباني، بتضاعف أسعار النفط، وانهيار أسعار الدولار، وتفاقم حالة الانكماش في الاقتصاد الأميركي، وبلوغ التضخم مستويات فاحشة في الارتفاع... في ظل أزمة كل المؤشرات تدل على أنها الأسوأ في تاريخ النظام المالي العالمي.
والأزمة وحدها هي ما يفسر تغيراً هاماً طرأ على القمة الحالية مقارنة بما سبقها من قمم: هذا الحشد الكبير من المشاركين. فالمشاركة كانت تقتصر تقليدياً على قادة البلدان الصناعية السبعة + روسيا، أو الثمانية بما فيها روسيا. لكن دائرتها اتسعت هذه المرة لتضم الأمم المتحدة، والمفوضوية الأوروبية، والاتحاد الإفريقي، والبنك الدولي، ووكالة الطاقة الذرية، والعديد من المنظمات الدولية الأخرى، إضافة إلى 14 بلداً من خارج إطار البلدان الصناعية الأكثر تقدماً، بينها سبعة بلدان إفريقية. ومن البلدان المدعوة هذه المرة بلدان صاعدة كالهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والمكسيك وإندونيسيا. كما ظهر في الاستخدام مصطلح جديد هو مصطلح الاقتصادات الستة عشر الكبرى في العالم: 8+8.
ماذا عن جدول الأعمال؟ هنالك أولاً رغبات الرئيس الأميركي جورج بوش ذات الصلة بقضايا الساعة السياسية الراهنة: الضغط على كل من كوريا الشمالية وإيران لجهة ملفيهما النوويين، والعمل على إدانة النظام الحاكم في زيمبابوي. مع مرور خاطف على العراق وأفغانستان ومشكلة الشرق الأوسط وضرورات مكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية وتعزيز حقوق الإنسان. ومع مستجد في المسألة الأخيرة: بوش أعلن عن نيته في المشاركة بحفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في بكين، في آب/ أغسطس المقبل، خاذلاً بذلك صديقه الدالاي لاما وصافعاً الدعوات التي أطلقت من هنا وهناك من أجل المقاطعة تضامناً مع التيبت. عدم المشاركة سيكون إهانة موجهة للصين، على ما قاله بوش بمنتهى التهذيب!
الموضوعات الأخرى تتراوح بين النفط والغذاء والمناخ. كلام قليل عن النفط، وسط إخلاء الساحة أمام العربدة الجنونية في التصاعد الحثيث لأسعاره باتجاه الـ250 دولاراً ربما قبل تصرم العام الحالي. تماماً وفق ما تقتضيه مصلحة شركات النفط العملاقة الأميركية والأوروبية، ومن ورائها البلدان المصدرة وحصتها السمينة من الفتات. وكلام لا يقل نكاية عن الدولار وسط إخلاء الساحة أمام الانهيار السريع في أسعاره، في وقت لم يترك فيه الرئيس بوش كلمة إلا وقالها في امتداح "الدولار القوي": نوع من رواية النكات السمجة على عالم يجري إلهاب ظهره تحت لسع السياط.
أما الغذاء، فالبشائر بشأنه تترى. سيدرسون رفع القيود عن الصادرات التي تمنعها البلدان الغنية عن البلدان الفقيرة في مجال المواد الغذائية. وسيدرسون، فيما لو رفعت بعض القيود، كيفية تمكين البلدان الفقيرة الرازحة تحت ثقل المديونيات وانعدام السيولة: قصص منها قصة الـ50 مليار دولار التي وعدت بتقديمها سنويا لمحاربة الفقر قمة الثمانية في غلينئيغز عام 2005، والتي يبدو أمر الوفاء بها من الأمور المستصعبة. وهنالك أحاديث عن تشكيل فريق عمل لمكافحة أزمة الغذاء، وهناك إجراءات وعدت بها أنغيلا ميركل لمكافحة أزمة الغذاء خشية تداعياتها على الأمن الدولي. وميركل هذه شهيرة بأطروحاتها حول الخطر الذي يشكله بالنسبة لأوروبا تناول الصيني لكأس من الحليب، أو الهندي لوجبتين بدلاً من وجبة واحدة. أما بالنسبة لأزمة المناخ، فسيدرسون الخطوات اللازمة لتقليص انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري بمعدل النصف من الآن وحتى حلول العام 2050. خطوات، مع كل العجب الذي تثيره مسألة التواريخ، مشابهة لأخواتها اليتيمات منذ بداية الكلام عن بروتوكولات كيوتو.
وسواء تعلق الأمر بهذه الأزمة أو تلك، فإن زعماء العالم الغني يواصلون، في قمة توياكو، رقصهم الاستكباري المجنون فوق حطام هذا العالم الحزين. رقص اعتاد عليه العالم في ما لا يحصى من الاجتماعات والقمم المتكاثرة حول الفقر والطاقة والأمراض والبيئة... أما الرد العالمي الوحيد على هذه المهزلة فلا يزال مقتصراً على أنشطة المناهضين للعولمة. بضعة آلاف من الأشخاص يتقاطرون منذ ثلاثة أشهر، من أربع أقطار المعمورة إلى سابورو، عاصمة الجزيرة التي تضم منتجع توياكو، بهدف الاحتجاج على ما آلت إليه أوضاع العالم. نظموا مسيرة صاخبة استمرت لساعة ونصف الساعة. قرعوا فيها الطبول، ورفعوا لافتات مزركشة بالألوان والشعارات. لم يسمعهم ولم يشاهدهم أحد من الزعماء، لأن سابورو تبعد 150 كلم عن توياكو. ولأن 21 ألف شرطي ياباني كانوا يحاصرونهم في تلك المدينة النائية. ولو أنهم شاهدوهم وسمعوهم لما أغنى ذلك العالم فتيلاً. فالعالم، بين صلف لصوص الهيكل، وطفولية أشكال النضال، يهوي بسرعة نحو الحضيض. والمطلوب أنماط عيش جديدة تقطع جذرياً مع حضارة النار النفطية وغير النفطية، لتفتح باباً نحو حضارة الجنة الخضراء. تقطع مع الاستهلاك المتوحش المدمر، وتفتح باباً نحو الإنتاج على قاعدة الحرث والزرع. لكن السؤال الصعب المطروح هو: هل يريد الناس، الناس العاديون، ذلك فعلاً؟ أم أن سعداً وسعيداً، مشغوفان كلاهما بمواصلة الرقص الحضاري المجنون على حطام العالم؟!
الانتقاد/ العدد1279 ـ 8 تموز/ يوليو 2008
قمة البلدان الصناعية الثمانية التي انعقدت العام الماضي في منتجع هابلغندام الألماني، خرجت بنتيجة مفادها أن الاقتصاد العالمي في وضع جيد. أما قمتها التي تنعقد الآن، من الاثنين إلى الأربعاء (7ـ9/2008)، في منتجع توياكو الياباني، فإنها لم تصل بعد إلى إخراج بيانها الختامي الذي يمكن وضعه من الآن تحت عنوان من نوع "جيد ولكن..."، مع توليفة من عبارات بذل الجهد والتحلي بالتفاؤل والأمل. ومهما بلغ مستوى التطمين في تلك العبارات، فإنه لن يغير شيئاً من الواقع المتمثل، بين المنتجعين الألماني والياباني، بتضاعف أسعار النفط، وانهيار أسعار الدولار، وتفاقم حالة الانكماش في الاقتصاد الأميركي، وبلوغ التضخم مستويات فاحشة في الارتفاع... في ظل أزمة كل المؤشرات تدل على أنها الأسوأ في تاريخ النظام المالي العالمي.
والأزمة وحدها هي ما يفسر تغيراً هاماً طرأ على القمة الحالية مقارنة بما سبقها من قمم: هذا الحشد الكبير من المشاركين. فالمشاركة كانت تقتصر تقليدياً على قادة البلدان الصناعية السبعة + روسيا، أو الثمانية بما فيها روسيا. لكن دائرتها اتسعت هذه المرة لتضم الأمم المتحدة، والمفوضوية الأوروبية، والاتحاد الإفريقي، والبنك الدولي، ووكالة الطاقة الذرية، والعديد من المنظمات الدولية الأخرى، إضافة إلى 14 بلداً من خارج إطار البلدان الصناعية الأكثر تقدماً، بينها سبعة بلدان إفريقية. ومن البلدان المدعوة هذه المرة بلدان صاعدة كالهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والمكسيك وإندونيسيا. كما ظهر في الاستخدام مصطلح جديد هو مصطلح الاقتصادات الستة عشر الكبرى في العالم: 8+8.
ماذا عن جدول الأعمال؟ هنالك أولاً رغبات الرئيس الأميركي جورج بوش ذات الصلة بقضايا الساعة السياسية الراهنة: الضغط على كل من كوريا الشمالية وإيران لجهة ملفيهما النوويين، والعمل على إدانة النظام الحاكم في زيمبابوي. مع مرور خاطف على العراق وأفغانستان ومشكلة الشرق الأوسط وضرورات مكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية وتعزيز حقوق الإنسان. ومع مستجد في المسألة الأخيرة: بوش أعلن عن نيته في المشاركة بحفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في بكين، في آب/ أغسطس المقبل، خاذلاً بذلك صديقه الدالاي لاما وصافعاً الدعوات التي أطلقت من هنا وهناك من أجل المقاطعة تضامناً مع التيبت. عدم المشاركة سيكون إهانة موجهة للصين، على ما قاله بوش بمنتهى التهذيب!
الموضوعات الأخرى تتراوح بين النفط والغذاء والمناخ. كلام قليل عن النفط، وسط إخلاء الساحة أمام العربدة الجنونية في التصاعد الحثيث لأسعاره باتجاه الـ250 دولاراً ربما قبل تصرم العام الحالي. تماماً وفق ما تقتضيه مصلحة شركات النفط العملاقة الأميركية والأوروبية، ومن ورائها البلدان المصدرة وحصتها السمينة من الفتات. وكلام لا يقل نكاية عن الدولار وسط إخلاء الساحة أمام الانهيار السريع في أسعاره، في وقت لم يترك فيه الرئيس بوش كلمة إلا وقالها في امتداح "الدولار القوي": نوع من رواية النكات السمجة على عالم يجري إلهاب ظهره تحت لسع السياط.
أما الغذاء، فالبشائر بشأنه تترى. سيدرسون رفع القيود عن الصادرات التي تمنعها البلدان الغنية عن البلدان الفقيرة في مجال المواد الغذائية. وسيدرسون، فيما لو رفعت بعض القيود، كيفية تمكين البلدان الفقيرة الرازحة تحت ثقل المديونيات وانعدام السيولة: قصص منها قصة الـ50 مليار دولار التي وعدت بتقديمها سنويا لمحاربة الفقر قمة الثمانية في غلينئيغز عام 2005، والتي يبدو أمر الوفاء بها من الأمور المستصعبة. وهنالك أحاديث عن تشكيل فريق عمل لمكافحة أزمة الغذاء، وهناك إجراءات وعدت بها أنغيلا ميركل لمكافحة أزمة الغذاء خشية تداعياتها على الأمن الدولي. وميركل هذه شهيرة بأطروحاتها حول الخطر الذي يشكله بالنسبة لأوروبا تناول الصيني لكأس من الحليب، أو الهندي لوجبتين بدلاً من وجبة واحدة. أما بالنسبة لأزمة المناخ، فسيدرسون الخطوات اللازمة لتقليص انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري بمعدل النصف من الآن وحتى حلول العام 2050. خطوات، مع كل العجب الذي تثيره مسألة التواريخ، مشابهة لأخواتها اليتيمات منذ بداية الكلام عن بروتوكولات كيوتو.
وسواء تعلق الأمر بهذه الأزمة أو تلك، فإن زعماء العالم الغني يواصلون، في قمة توياكو، رقصهم الاستكباري المجنون فوق حطام هذا العالم الحزين. رقص اعتاد عليه العالم في ما لا يحصى من الاجتماعات والقمم المتكاثرة حول الفقر والطاقة والأمراض والبيئة... أما الرد العالمي الوحيد على هذه المهزلة فلا يزال مقتصراً على أنشطة المناهضين للعولمة. بضعة آلاف من الأشخاص يتقاطرون منذ ثلاثة أشهر، من أربع أقطار المعمورة إلى سابورو، عاصمة الجزيرة التي تضم منتجع توياكو، بهدف الاحتجاج على ما آلت إليه أوضاع العالم. نظموا مسيرة صاخبة استمرت لساعة ونصف الساعة. قرعوا فيها الطبول، ورفعوا لافتات مزركشة بالألوان والشعارات. لم يسمعهم ولم يشاهدهم أحد من الزعماء، لأن سابورو تبعد 150 كلم عن توياكو. ولأن 21 ألف شرطي ياباني كانوا يحاصرونهم في تلك المدينة النائية. ولو أنهم شاهدوهم وسمعوهم لما أغنى ذلك العالم فتيلاً. فالعالم، بين صلف لصوص الهيكل، وطفولية أشكال النضال، يهوي بسرعة نحو الحضيض. والمطلوب أنماط عيش جديدة تقطع جذرياً مع حضارة النار النفطية وغير النفطية، لتفتح باباً نحو حضارة الجنة الخضراء. تقطع مع الاستهلاك المتوحش المدمر، وتفتح باباً نحو الإنتاج على قاعدة الحرث والزرع. لكن السؤال الصعب المطروح هو: هل يريد الناس، الناس العاديون، ذلك فعلاً؟ أم أن سعداً وسعيداً، مشغوفان كلاهما بمواصلة الرقص الحضاري المجنون على حطام العالم؟!
الانتقاد/ العدد1279 ـ 8 تموز/ يوليو 2008