ارشيف من :آراء وتحليلات
خلف القناع: مهاجر السودان.. عاد

كتب مصطفى خازم
غالباً ما تسيطر البيئة التي يعيش فيها الأديب او الكاتب أو الشاعر على وعاء مفرداته والتعابير المستخدمة في نتاجه، وهذه هي حال شاعر السودان الراحل عنا قبل أيام، الطيب صالح.
برغم أنه عاش متنقلاً بين ثقافات ودول مختلفة.. إلا أنه بقي متجلبباً بالعباءة والعمة، ولم يخرج من نفسه فنال احترام الآخرين بل فرض نفسه، اديباً ترجمت اعماله الى لغات عدة.
ولد الطيب محمد صالح أحمد كما دون في بطاقة هويته في مركز مروى، كرمكول، المديرية الشمالية للسودان في العام 1929.
تلقى تعليمه في وادي سيدنا وفي كلية العلوم في الخرطوم.. ولم يُتِمَّه. غادر إلى بريطانيا حيث مارس التدريس والعمل في الإذاعة البريطانية في لندن.
حاز شهادة في الشؤون الدولية في إنكلترا، وشغل منصب ممثل اليونسكو في دول الخليج ومقره قطر في الفترة 1984 - 1989.
وبرغم ان "موسم الهجرة إلى الشمال" هي روايته الثانية الا انها كانت بوابته إلى النجاح والتعريف به، فقد صنفت كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين، ونالت العديد من الجوائز.
من عناوين ما كتب تكتشف الارتباط بالبيئة، وبالتراث فمن "عرس الزين" إلى "موسم الهجرة إلى الشمال"، "مريود"، "نخلة على الجدول"، "دومة ود حامد"، "بندر شاه".
القرية والمبادئ والقيم والاعراف كانت تظهر مرسومة تنتقل الى الذهن كفيلم توثيقي يخفق من الذاكرة وفيها، نقتطف من حديث "محمود ود جبرالدار" الغريب الذي حط على القرية في رواية «ضو البيت» صورة للقرية واخلاق سكانها والقيم والتقاليد:
«يا عبدالله نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف، لكن قلوبنا عامرة بالرضى، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا، نصلي فروضنا، ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزمين على نوائب الزمان وصروف الدهر، الكثير لا يبطرنا، والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد الى اللحد، القليل العندنا عملناه بسواعدنا، ما تعدينا على حقوق انسان، ولا اكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت سلام، وناس غضب وقت الغضب الما يعرفنا يظن اننا ضعاف اذا نفخنا الهوا يرمينا لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول".
هذا هو السوداني البسيط غير المتكلف، والعارف خبايا الامور وغير المتزلف، وربما لهذا نجد الحرب على هذا البلد، وصولاً إلى طلب محاكمة رئيسه بذرائع وحجج، والمطلوب خلف كل هذا هو تلك الصورة التي رسمها لنا الطيب.
بلد غني بكل مقومات العيش والكرامة حارب بشرف وشاطر اخوته الافراح والاتراح.. من عاصمته خرجت اللاءات الثلاث، والتي لا تزال مصدر الهجوم المستمر عليه.
عاشق المقاومة حتى النخاع والمدافع عنها في عز محنته..النيل يشرق من أول خارطتها ليغرب في آخرها، ولكن كما عادة الاستعمار يمنع الخير عن أصحابه.. إهراءات العرب التي لا تنتهي، قمحاً وفواكه استوائية، وفولا. ثروات طبيعية ونفط ويورانيوم.. وثقافة وأدب..
بلد العجائب، والتاريخ الذي لم يكتشف والطبيعة الخلابة.. فقد اليوم واحدا من كباره.. لكن التراث الذي ترك مترجم الى اكثر من عشرين لغة سيبقى..
وسيبقى السودان مقاتلاً بشرف في مواجهة الغزو الثقافي.. والعسكري ربما حتى لو جاء على شكل احكام جنائية دولية..
الطيب صالح.. عاد الى السودان ليدفن في أحضان وادي الخير.. طاوياً موسم الهجرة على طريقته..
الانتقاد/ العدد 1334، 20 شباط/ فبراير 2009
غالباً ما تسيطر البيئة التي يعيش فيها الأديب او الكاتب أو الشاعر على وعاء مفرداته والتعابير المستخدمة في نتاجه، وهذه هي حال شاعر السودان الراحل عنا قبل أيام، الطيب صالح.
برغم أنه عاش متنقلاً بين ثقافات ودول مختلفة.. إلا أنه بقي متجلبباً بالعباءة والعمة، ولم يخرج من نفسه فنال احترام الآخرين بل فرض نفسه، اديباً ترجمت اعماله الى لغات عدة.
ولد الطيب محمد صالح أحمد كما دون في بطاقة هويته في مركز مروى، كرمكول، المديرية الشمالية للسودان في العام 1929.
تلقى تعليمه في وادي سيدنا وفي كلية العلوم في الخرطوم.. ولم يُتِمَّه. غادر إلى بريطانيا حيث مارس التدريس والعمل في الإذاعة البريطانية في لندن.
حاز شهادة في الشؤون الدولية في إنكلترا، وشغل منصب ممثل اليونسكو في دول الخليج ومقره قطر في الفترة 1984 - 1989.
وبرغم ان "موسم الهجرة إلى الشمال" هي روايته الثانية الا انها كانت بوابته إلى النجاح والتعريف به، فقد صنفت كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين، ونالت العديد من الجوائز.
من عناوين ما كتب تكتشف الارتباط بالبيئة، وبالتراث فمن "عرس الزين" إلى "موسم الهجرة إلى الشمال"، "مريود"، "نخلة على الجدول"، "دومة ود حامد"، "بندر شاه".
القرية والمبادئ والقيم والاعراف كانت تظهر مرسومة تنتقل الى الذهن كفيلم توثيقي يخفق من الذاكرة وفيها، نقتطف من حديث "محمود ود جبرالدار" الغريب الذي حط على القرية في رواية «ضو البيت» صورة للقرية واخلاق سكانها والقيم والتقاليد:
«يا عبدالله نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف، لكن قلوبنا عامرة بالرضى، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا، نصلي فروضنا، ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزمين على نوائب الزمان وصروف الدهر، الكثير لا يبطرنا، والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد الى اللحد، القليل العندنا عملناه بسواعدنا، ما تعدينا على حقوق انسان، ولا اكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت سلام، وناس غضب وقت الغضب الما يعرفنا يظن اننا ضعاف اذا نفخنا الهوا يرمينا لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول".
هذا هو السوداني البسيط غير المتكلف، والعارف خبايا الامور وغير المتزلف، وربما لهذا نجد الحرب على هذا البلد، وصولاً إلى طلب محاكمة رئيسه بذرائع وحجج، والمطلوب خلف كل هذا هو تلك الصورة التي رسمها لنا الطيب.
بلد غني بكل مقومات العيش والكرامة حارب بشرف وشاطر اخوته الافراح والاتراح.. من عاصمته خرجت اللاءات الثلاث، والتي لا تزال مصدر الهجوم المستمر عليه.
عاشق المقاومة حتى النخاع والمدافع عنها في عز محنته..النيل يشرق من أول خارطتها ليغرب في آخرها، ولكن كما عادة الاستعمار يمنع الخير عن أصحابه.. إهراءات العرب التي لا تنتهي، قمحاً وفواكه استوائية، وفولا. ثروات طبيعية ونفط ويورانيوم.. وثقافة وأدب..
بلد العجائب، والتاريخ الذي لم يكتشف والطبيعة الخلابة.. فقد اليوم واحدا من كباره.. لكن التراث الذي ترك مترجم الى اكثر من عشرين لغة سيبقى..
وسيبقى السودان مقاتلاً بشرف في مواجهة الغزو الثقافي.. والعسكري ربما حتى لو جاء على شكل احكام جنائية دولية..
الطيب صالح.. عاد الى السودان ليدفن في أحضان وادي الخير.. طاوياً موسم الهجرة على طريقته..
الانتقاد/ العدد 1334، 20 شباط/ فبراير 2009