ارشيف من :آراء وتحليلات

بقلم الرصاص: محنة المثقفين.. رأس للبيع

بقلم الرصاص: محنة المثقفين.. رأس للبيع
كتب نصري الصايغ
لا يلام الإنسان العادي، إذا مارس السياسة، بعاطفته ومشاعره فقط، ولا يمكن اعتبار ما يقوم به، نموذجاً يحتذى، لأن حكمه على الأنباء والقضايا، ينطلق من نوازعه ورغباته ومؤثرات البيئة فيه، مرجعيته في الحكم على الأشياء، مشوبة بالذاتية والعاطفية التي تبلغ حد التعصب والشوفينية والعنصرية ومنها الطائفية.
انما يلام المثقف الذي يكون سيد خياراته، ولا يتخذها إلا على أساس العقل النقدي، الذي يستخلص المعايير والقواعد التي تحكم سلوكه، فيلتزم بها، سياسة وفكراً وتربية وإعلاماً وحياةً، ما يتصف به المثقف، أنه نقدي، ومسؤول ويتطابق فكره مع سلوكه، ويطيف معاييره الخلفية من دون انتقائية، فالقلم قلم، أينما كان، والقمع هو قمع مهما كانت المبررات، وحقوق  الإنسان هي ذاتها، في لبنان وافغانستان وايران والفاتيكان. والديمقراطية، يقيمها، إذا كان مؤمنا بها، هي نهج وأسلوب سياسة وقوام حكم في كل مكان، فلا تبرر الدكتاتورية ولا الظلامية ولا الفوضى.
المثقف بهذا المعنى، هو قيمة فكرية ـ أخلاقية، ذات مدى مسكوني، فهو ضد الاستغباء اينما كان، وضد تجارة الرقيق الأبيض والأسود أينما كانت، مع الجائعين ضد المتخمين، مع المقاومة ضد الاحتلال، مع التقدم ضد التخلف، إنه دائماً مع قيمة ايجابية.
في عالمنا العربي، عدد من المثقفين تبوأوا المسؤولية فانخرطوا في مشروع نهضة اجتماعية فكرية سياسية، والتزموا بمسيرتها، برغم كل المشاق والنكسات. وفي عالمنا العربي، من استهل توظيف طاقاته العقلية وقواه النفسية وابداعاته الأدبية، ليقف دياناً علنياً باسم القيم والمعايير الغربية الذائعة الصيت، ولكنها مداسة من قبل الغرب خارج دول الغرب.
قد نتفق معهم على كثير من هذه القيم الرائعة، وقد نختلف، المسألة ليست في ما يعتقده هذا المثقف، بل في ما ينتقيه من حقول سياسية ليمارس انحيازه وتبرير همجية الغرب.
المثقفون العرب، في غالبيتهم، لم يشكلوا حالة اعتراض ونفي للواقع المهترئ، بل باتوا جزءاً من هذا الواقع، فهم للأسف طائفيون، يا للعار!!!
وهم مذهبيون يا للمذلة يا للوهم، اقليميون، يا للعنصرية!!! وهم مع الاستبداد ضد استبداد آخر يشبهه.. يا للانتقائية!!! وهم مع العولمة المتوحشة.. والمبشرون بفضائلها القاتلة يا للاستغلال!!! وهم مع السلطة، وهواها، يا للجبن، وهم في آخر المطاف ضد القضايا التي يتبنونها بلا مواربة.
يلام هؤلاء بشدة وقسوة.. حتى ليصح القول، إنهم أولاً، خونة لأنفسهم عندما يوظفون عقولهم في خدمة أمر سياسي قادم من دون قناعتهم ومن دون مشاركتهم.
المثقف الموظف.. بلية..
هذا الكلام، أسوقه في هذه المناسبة، بعد قراءتي عدداً من المقالات الأوروبية، التي يصلح عليها بالعقل، أنها مقالات مثقفين ملتزمين بالقضايا الانسانية وحقوق الانسان ويقفون إلى جانب أهل غزة، ومقاومتها، فيما يتبارى مثقفونا بجلد غزة و"حماسها"، وجلد المقاومة في لبنان بسبب اسلاميتها.
أحياناً، أتمنى أمام طوفان الثقافة السياسية السائدة في عالم عربي متقاعد عن مهماته، أن أكون تركياً، أو أوروبياً، أو مجنوناً، إذ ماذا ينفع العقل، وماذا تنفع الثقافة عندما تتحول إلى تبرير للشر وتأييد للخطأ.
الذين كانوا نازيين، لم يكونوا أغبياء بل عباقرة شر، وكذلك من كان إلى جانب ستالين وجانب بيريا وجانب موسوليني وجانب بينوشيه وجانب الدكتاتوريين العرب.
والذين كانوا إلى جانب بوش، كانوا من ألمع الوجوه الأكاديمية في اميركا.
لا تقل لي كيف وبماذا تفكر؟ قل لي هل بعت رأسك أم ما زال حراً فوق كتفيك.
الانتقاد/ العدد 1334، 20 شباط/ فبراير 2009
2009-02-20