ارشيف من :أخبار لبنانية

المقاصد: 80 عاماً (نبيه بري)

المقاصد: 80 عاماً  (نبيه بري)

لبيروت الازهار الخمسة للاحرف الناضجة، الممتلئة بأحاسيس الناس، والمعّطرة بالوقت، والمقيمة ابداً كشجرة التاريخ.
لبيروت نشيد الجهات: نسائم الجنوب المدلوقة من جرّة عطشة، ونسائم الشمال المتدفقة من فيحائه والمضمخة بمجد ارزه، ونسائم الجبل المسكونة بالورود، ورياح البحر المكتوبة قصيدة ملحيّة المذاق في رغيف البر.
لبيروت رحلة الصيف والشتاء من القرى في جهات الوطن حاملة إليها: زيتها وزيتونها، قمحها وتفاحها وتبغها وأملها.
لبيروت، رحلة العودة منها إليها ومن صباحاتها الى مساءاتها ومن امسها الى يومها الى غدها.
لبيروت منبر اللغة الأنيقة وقصيدة الحب والحياة، والمعرض الدائم للكتاب بل العاصمة العالمية للكتاب.
لبيروت اللوحة التشكيلية لصورة حركة الشرق، ومطبعة الشرق وحديقة الحرية في الشرق.
لبيروت ابراهيم عبد العال المتفاخرة بحلم الليطاني (المجمّد)، ولبيروت المفتخرة على العواصم بأنها حلم المد الذي يصافحها بيد الموج الناصعة وهي تحمل إليها اعتراف البحر بالحب، والمفتخرة بفرحها الذي لا ينضب، وبورودها التي لا تكف عن المضاربة بالالوان، والمفتخرة على العواصم بضواحيها المزدهرة بالعزم والتي تصعد من تحت الدمار والرماد كطائر الفينيق.
لبيروت شجرة الميلاد وشجرة الرايات المضاءة، راية جمال عبد الناصر ورايات المقاومة الفلسطينية، ورايات المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية ودائما راية لبنان: علم لبنان.
ولبيروت بيت بيوت الفكرة والفكر، ومسجد وصومعة الصلاح والاصلاح، ومنبر الحداثة ودرس الحياة والجهاد والتنوير في مدرسة الامام الاوزاعي والامام الصدر، والمفتي الشهيد حسن خالد والبطريرك الياس الحويك والمطران يوسف الدبس.
لبيروت مدرسة الصمود العربي التي وقفت كالرمح اثنين وسبعين يوما بوجه الحصار وكرة النار والموت الاسرائيلية عام 1982، والتي تحملت قبل ذلك لأعوام وأعوام عمليات الغدر والاغتيال في شوارعها لأمير الكلمة كمال ناصر، ولأمراء الميمنة والميسرة والقلب في جيش المقاومة كمال العدوان وابو يوسف النجار وابو حسن سلامه ووديع حداد وغسان كنفاني وغيرهم.
ولبيروت الشاهدة على المجازر الاسرائيلية في صبرا وشاتيلا والمجازر التي وقعت خلال عصر المقاومة جرّاء الاعتداءات الجوية الاسرائيلية على حياتها وشوارعها العامرة بالحياة في الفاكهاني وطريق الجديدة.
ولبيروت المتألمة على الرئيس الشهيد رفيق الحريري صاحب اليد البيضاء على المقاصد وعلى قلبها واسواقها، والتي تتأكد يوما بعد يوم ان الحقيقة التي لا حياة من دونها ولا وطن ولا بيت ولا عائلة من دونها، هذه الحقيقة لا بد ان تسطع كشمس وان تتحقق عدالتها.
ومجدداً لبيروت التي احتمينا فيها من لسعة الحرمان ومن نار العدوان، والتي تستيقظ على أذان صباحها وترتيل كنيستها، والتي تفتح باب الصباح على جرس مدرستها: المقاصد.
وللمقاصد عاصمة العاصمة وكلمة سرّها وخرزتها الزرقاء من صيبة عيون الحساد.
ودائماً للمقاصد قرنفلة المحبة والتسامح وحصن الرئيس المرحوم صائب بك سلام رئيس المؤسسة، ولرئيس جمعية المقاصد اليوم الاستاذ امين الداعوق ولرئيس جمعية متخرجي المقاصد الزميل الاستاذ محمد مازن الشربجي.
في الذكرى الثمانين لمتخرجي هذا الصرح
تحية أحدهم،
مرة جديدة اطرق على باب المقاصد فينفتح دون كلمة سر، وتراني وأنا ادخل بيت المقاصد متهيبا للقاء الوجه الذي لا يغادرني، وجه استاذي زكي النقاش الذي علّمني ان الجغرافيا لا يمكن ان تزوّر، وان التاريخ ليس حفلة مجاملات ولا كلمات متقاطعة ولا غمغمة في الظل، بل نص صريح للدماء الذي تكتبه في الميدان، وللحبر الشجاع الذي يكتب صرخة الناس في برية الأوطان وميادين المواقف.
وتراني وأنا ادخل باب بيت المقاصد بعد خمسين عاما على تخرجي منها، اقف بكل فخر امام الاساتذة الكبار الذين تعاقبوا على اجيالنا وفي الطليعة مع حفظ الألقاب (عمر فروخ وعارف ابو شقرا ورضا ايراني، نزار الزين، وفيق طباره، محمد شبقلو، محمد غزيري، نوبار جانيان، محمد المجذوب، عفيف الترك، انطوان شيخاني، فرنسيس ادريس، وفارس ادريس، شفيق الحوت، الشيخ الشال ووجيه الجارودي وغيرهم وغيرهم...
هؤلاء الذين تعلمنا منهم ان لبنان بلد الايمان والتعايش والطموح، رغم صغر مساحته هو امبراطورية انسانية تمتد على مساحة ابنائه المنتشرين والمغتربين في العالم، وانه بهذه الصفة لا يستطيع ان يكون محايدا تجاه هموم العالم وتجاه قضايا أمته، وان لبنان الحاضر والمستقبل لن يكون الا لبنان القومي، لبنان المواجهة، لبنان المدافع، لبنان المعني بالقضية الفلسطينية، لبنان الحامي للغة العربية، لبنان الحامي للقضايا العربية.
ومن باب المقاصد أؤكد ان العاصمة بيروت تكتسب صفة وطنية جامعة، وهذا الأمر يستدعي رفض محاولات تقزيمها مع احترامنا لكل خصوصياتها البيروتية وانتماءات اهلها وعاداتهم وتقاليدهم والتزاماتهم.
إن بيروت لا يمكن الا ان تكون عاصمة للعروبة والمقاومة والحوار والديموقراطية والمشاركة، وهي بهذه الصفات تكون عاصمة للبنان.
إن العاصمة بيروت التي تُشكل واجهة لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العربية والدولية، يجب ان تُعصَمَ حتى لا تسقط بيد اعداء لبنان كما حدث عام 1982، وهي يجب ان تُحصّن بالوحدة الوطنية التي يجب ان لا تبقى مجرد شعار بل ان تتحوّل الى مادة في صلب المنهاج التربوي.
في هذا المجال نقول ان هناك ثلاثة اقانيم لتعميق الوحدة والانتماء الوطني، وهي كتاب تاريخ موحّد وكتاب تربية وطنية موحّد وقانون مواطنة وهذا القانون يعتمد على تعريف موحَّد وموحِّد للوطن والمواطن والمواطنية.
ومن منطلق ذلك ولأن لبنان يقع على حدود اليمين الاسرائيلي، فإننا ورغم اننا نعرف ان اليمين واليسار الاسرائيلي وجهان لعملة العدوانية الاسرائيلية نفسها، وان لبنان دفع أثمانا متساوية لحكومات اليمين واليسار جرّاء حروب اسرائيلية على ارضه، الا ان اتجاهات الرأي العام الاسرائيلي التي ادت الى انتاج الخريطة السياسية الراهنة تؤكد ان المجتمع الاسرائيلي عاجز عن صنع السلام مع نفسه فكيف مع الآخرين، وان لبنان بهذا المعنى سيبقى مهددا دائما في سلامه واستقراره، وانه يجدر النظر حاليا الى الحرب الامنية الاستخبارية التي تشنها اسرائيل ضد بلدنا من اجل ان يتأكد الجميع ان لبنان ما زال على منظار التصويب الاسرائيلي، وان هذا الامر يؤكد ضرورة المقاومة واستمرار الحاجة الى المقاومة، كما يؤكد ضرورة مد الجيش بالعديد وبالعتاد والمنظومات الدفاعية الضرورية لحماية الحدود السيادية للبنان.
اننا بالمقابل نؤكد ان كل مواطن يجب ان يكون خفيرا الى جانب الجيش، لمنع اعداء لبنان والعروبة والاسلام من محاولة الاصطياد في مياه التوترات الداخلية السياسية العكرة سواء محاولة ارباك الوضع الامني الداخلي او عبر الصوارخ الحدودية.
هذا على حدود الوطن وامنه الوطني، أما على حدود مجتمعه فإن تصوير الانتخابات النيابية على انها مصيرية وعلى انها أمُّ المعارك امر في غير محله، فالانتخابات يجب ان تعبّر كما في كل الدول الديموقراطية عن نهج حياة لا عن عملية اقتراع موسمية تؤدي الى هزيمة الخصم بالنقاط او بالضربة القاضية.
إن الكلام الذي يُلقى هذه الايام هنا او هناك يعبّر عن حملة تنزيلات انتخابية في إطار بناء التحالفات والاستحواذ على اصوات الناخبين، وقد ابرز هذا الامر الانتخابات على انها تشبه مبيعات نهاية الموسم، حيث يُعرض كل ما يتمتع بالجودة بأرخص الاسعار الانتخابية.
إنني اسمح لنفسي ان اتوجه باسم خمسة وثلاثين الفا من متخرجي جمعية المقاصد وما تمثل لأقول:
إنه إذا بقيت لغة الخطاب السياسي متدنية وبقي كل طرف يرفع بوجه الآخر لوائح اتهامية بالخيانة والهدر والفساد والاستئثار والفئوية والمذهبية والطائفية وتعطيل الدولة، فإن الجميع سيؤكدون مرة بعد المرة الفشل الاخلاقي العميق في الارتقاء ليس بلغة الخطاب السياسي فحسب، بل الارتقاء الى مستوى المسؤولية الوطنية التي تمنع على أي منا ان يُعيّن نفسه قاضيا او محاميا او جلادا، والتي تستدعي ان يتم توجيه هذا النوع الخطير من الاتهامات في موقعها القضائي المناسب.
لقد قلت في الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس جمعية متخرجي المقاصد قبل خمس سنوات ان نقف بمواجهة حرب تستهدف توقيع نكبة جديدة بالشعب الفلسطيني.
لقد بدأ ذلك بالحرب الإسرائيلية الثالثة ضد الشعب الفلسطيني، والتي استهدفت عسكريا قطاع غزة والتي تستهدف كل فلسطين بالاستيطان والقتل والاعتقال كما تستهدف القدس والمسجد الأقصى المبارك بالتهويد.
إن مواجهة الأبعاد الإسرائيلية لهذه الحرب وفي الطليعة اغتيال أماني الشعب الفلسطيني وفرض مشروع الوطن البديل والتوطين تستدعي:
أولا: إنجاز المصالحة الفلسطينية
ثانيا: إنجاز المصالحات العربية
ثالثا: مباشرة إعمار غزة
ودائما وأبدا وحدة اللبنانيين 

(صحيفة "السفير")
 

2009-03-13