ارشيف من :آراء وتحليلات

نقطة حبر: الأنا وتفاصيلها

نقطة حبر: الأنا وتفاصيلها
كتب حسن نعيم
حين يكتب الروائي رواية بعين الطفل الذي تصافح عيناه الأشياء لأول المرة،  يتهم عادة بأنها جزء من حياته الشخصية. هذا الاتهام ينطوي على اتهام ضمني آخر بتقليص مساحة التخييل لمصلحة الوقائع الحياتية، ولا يبتعد البعض عن اتهام روّاد هذا النوع الكتابي بالاستغراق في التفاصيل التي لا تغني ولا تسمن، ونسيان الهموم الجمعية والانسانية  سواء المادية أو النفسية.
لا ينفي الكثير من الكتاب الروائيين  التهمة الأولى، بل يتقبلونها في الغالب بشيء من الرضا الذي يستبطن غبطة داخلية بقدرتهم على الامساك باللحظات  الهاربة وتوثيقها في نص أدبي مفعم بالايحاءات والدلالات. لكنهم يتوقفون  ملياً أمام التهمة الثانية ـ اذا صح أنها تهمة ـ فهم يرون أن هذه التفاصيل تشكل 90%  من اهتمامات الفرد في عالم اليوم، وهي بالتالي  مادة دسمة للكتابة الابداعية التي تتفنن الأقلام بعرضها في ملعب  شاسع من ملاعب الفنون التعبيرية.
 في تقبل وركون الكاتب الى التهمة الاولى ما يحرض على الكثير من الأسئلة، فاذا كانت  الاستفادة من السيرة الذاتية  أمر مباح، بل مستحب في أكثر الأحيان، أليس  الارتكاز عليها وجعلها المنطلق الوحيد للكتابة مقتلاً للموهبة الحقيقية؟
فاذا كانت السيرة الذاتية  هي الشريان الوحيد الذي يغذي الورقة البيضاء  فماذا سيكتب الروائي بعد أن يفرغ  ما في جعبته من ذكريات عن الأيام الخوالي؟ ان استهلاك الذاكرة واستنزافها يضع الكاتب أمام اختبار الكتابة الأول ويعيده الى بدايات امساك أطراف اللعبة التخيليية، وهذا ما حصل مع  "جان روو" في روايته "حقول الشرف" التي حازت جائزة "غونكور" لعام 1990،  فقد أفرغ "روو" كل ما في جعبته من ذكريات عائلية وكان عليه بعد ذلك أن يثبت لنفسه أولاً ولقرائه تالياً أنه جدير بصفة الكاتب الذي  يستطيع أن يتخيل وان يحكّم خيالاته في صنيع روائي، أو أن يتذكر ويصب ذكرياته في قالب روائي  تحكمه رؤية الكاتب الممسك بعنان التفاصيل والآخذ بها نحو توظيفاتها الفنية.
أما الاشكالية الثانية فأمرها ليس بهذا القدر من الوعورة والصعوبة  والاختلاف حتى يتخندق كل واحد منا وراء مذهبه الكتابي ويرشق الآخرين بسهام أفكاره.
ان التوفيق بين المذهبين الكتابيين يقتضي كتابة التفاصيل، بل تفاصيل التفاصيل، انما ضمن رؤية كلية تسوّغها وتبررها في سياق بنيوي متكامل.
الانتقاد/ العدد1337 ـ 13 آذار/ مارس 2009
2009-03-13