ارشيف من :أخبار لبنانية

المخاض الأرمني في دلالاته العميقة

المخاض الأرمني في دلالاته العميقة

ليس تفصيلاً، المخاض الذي تعبره قيادة حزب الطاشناق، ومعها الجماعة الأرمنية في لبنان. لا بل يعتبره كثيرون من المعنيين بالحدث، مفصلاً تاريخياً في حياة هذه الطائفة العريقة في الوطن. أين هو المخاض؟ بكل بساطة، إنه في عملية الخيار، وآلية قرار الخيار، بين عرضين يجد الأرمن أنفسهم أمامهما.
العرض الأول، يقدمه الموقع السياسي والنيابي والانتخابي الحالي لحزب الطاشناق. ومفاده الآتي: ليستعدّ الحزب ومعه جماعته بكاملها، في الوطن والانتشار، لخوض انتخابات لا تخلو من التحديات في ثلاث دوائر انتخابية، هي: المتن الشمالي، بيروت الأولى وزحلة، وليعدّ الحزب والطائفة لهذه الانتخابات كل العدة اللازمة. وأولها إنفاق انتخابي قد لا يقل عن مليون دولار أميركي قانوناً. وفي المقابل، يمكن للحزب وجماعته، في حال الفوز الكامل، الحصول على أربعة مقاعد نيابية.
أما العرض الثاني، فتقدمه إلى الأرمن بقيادة حزب الطاشناق، دار قريطم، بوساطة ميشال المر. ومفاد هذا العرض الآتي: لا تخوضوا أي مواجهات انتخابية، لا في بيروت الأولى ولا في المتن ولا في زحلة. لا تقترعوا للمرشحين الحريريين حتى في هذه الدوائر، ولا في غيرها. لا تتكبّدوا عناء أي جهد، ولا صرف أي قرش. لا بل في مقابل المليون دولار الذي قد تضطرون لصرفه في العرض الأول، قد تكونون أمام فرصة قبض أضعافه مضاعفة في العرض الثاني. وفي النهاية تربحون مقاعدكم الأرمنية كاملة، من دون منافسة ولا مواجهة ولا انتخابات. كل ذلك لقاء ماذا؟ لقاء عدم التعبئة الأرمنية لمصلحة مرشحي ميشال عون ولوائحه في أي من الدوائر الثلاث المذكورة، ولا في أي دائرة أخرى فيها لبناني أرمني مسجل على قيودها.
ما الذي يرجّح أيّاً من الخيارين؟ وما هي العناصر التي تسمح بالحسم بينهما؟
في العرض الأول، تبدو مكوّنات الترجيح واضحة: حساب الوصول بأي ثمن. وهو حساب يتضمن الغدر بحليف حالي ربما. لكنه في الوقت نفسه يحمل الثأر من النواب الأرمن الحاليين، الذين جاء بهم سعد الدين الحريري غصباً عن إرادة الأرمن، ويساوم اليوم على رؤوسهم، من دون سعر ولو بخس لأي منهم.
وما يرجّح العرض الأول هو حساب الركوب على رهان السلطة الحريرية، على أمل ألا تكون التطورات الإقليمية والخارجية جدية في تبديل موازين قوتها. إضافة إلى حساب أن يصدق "الحريري الثاني" بعد الانتخابات، فلا يرمي "أرمنه الجدد"، كما يفاوض على رؤوس أرمنه الحاليين... كل هذا نظرياً، لا غير.
أمّا مكوّنات الترجيح لمصلحة العرض الثاني، فهي مختلفة جوهراً ومبدأً. وأبرزها الآتي: أولاً، في الجانب الأدبي والخلقي السياسي، إيفاء الجميل لمَن أعاد الأرمن إلى خريطة السياسة اللبنانية، نيابةً، وحواراً وطنياً، واتفاق دوحة، وتمثيلاً حكومياً.
ثانياً، في الجانب السياسي البحت، الرهان على اتجاهات الخيارات الوطنية الصحيحة، في التفاهم اللبناني ـ اللبناني، وفي الانفتاح اللبناني على حواره، وخصوصاً على الجوار المعني بالحضور الأرمني في المنطقة.
ثالثاً، في الجانب الوجودي والتاريخي، التأكيد على انتماء الجماعة الأرمنية اللبنانية إلى صلب الطبيعة الميثاقية للبنان، كجزء لا يتجزأ من الوجدان المسيحي المركزي. فيوم كان هذا الوجدان متجسّداً في موقع رئاسة الجمهورية، زمن دستور ما قبل الطائف، كان الأرمن هناك، ويوم صار هذا الوجدان متمركزاً لدى الزعامة المسيحية القادرة على موازنة السلطة الإجرائية في مجلس الوزراء، حسب دستور الطائف، طبيعي أن يكون الأرمن مع هذه الزعامة، إيماناً منهم بالميثاق والكيان والوطن.
يبقى المكوّن الرابع والأخير، في الجانب الشعبي والديموقراطي، وهو خيار التجاوب مع الميل الطاغي للأكثرية الساحقة من الشارع الأرمني.
ليس تفصيلاً المخاض الأرمني. فهو كتعبير عن أكثر الوجدانات اللبنانية الأقلويّة دقة واعتباراً من دروس التجارب والمعاناة والتاريخ، يؤشر إلى طبيعة لبنان الراهن، في انتظار عبور ما إلى جمهورية ثالثة...

(جان عزيز ـ صحيفة "الأخبار")


2009-03-19