ارشيف من :أخبار عالمية

أميركا: بالقتل وحده يحيا الإنسان!

أميركا: بالقتل وحده يحيا الإنسان!
كتب عقيل الشيخ حسين
القتل نشاط قديم قدم الإنسان، فقد قتل قابيل أخاه هابيل. وقد يكون من المفهوم أن يقتل الإنسان عدواً له أو صديقاً في فورة غضب أو عن غير عمد، أو أن يقتل الأخ أخاه أو أباه ليجلس مكانه على سرير الملك، على ما نجده متواتراً في تاريخ جميع الأمم قديماً وحديثاً.. وقد يكون من المفهوم أيضاً أن تعمد جماعة مسلحة إلى قتل الناس على الهوية أو ضربهم بقنبلة ذرية خدمة لمشروع سياسي ما، لكن ما يظل غير مفهوم، هو أن يفاجأ الناس في الشارع أو المطعم أو في مكان العمل أو المدرسة بشخص لا يعرفونه ولا يعرفهم، يقتحم المكان ويبدأ بإطلاق النار عليهم من مسدسه أو من رشاشه الحربي. والأشد غرابة هو هذه الظاهرة الجديدة المتمثلة بتوسع دائرة القتل لتشمل الأطفال.. قتلة وقاتلين.
ففي وقت متزامن تقريباً، تناقلت وسائل الإعلام خبرين عن جريمتين ارتكبت أولاهما في إحدى مدن ألاباما الأميركية، حيث قتل رجل بعمر 27 عاماً عشرة أشخاص في أمكنة مختلفة، قبل أن ينتحر بسلاحه الحربي. وكانت والدته وصديقته في رأس قائمة القتلى. أما الثانية فقد ارتكبها فتى بعمر السابعة عشرة داخل إحدى المدارس قرب شتوتغارت في ألمانيا، عندما أطلق النار من رشاشه الحربي فقتل خمسة عشر شخصاً، بينهم تسعة من التلامذة، لم يلبث أن أضاف إليهم قتيلين آخرين أثناء مطاردته من قبل رجال الشرطة الذين تمكنوا من قتله.
مثل هذه الجرائم التي تستهدف الأطفال أو التي يرتكبها الأطفال باتت خبزاً شبه يومي في عالم اليوم. وقد نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية لائحة ببعض الأمثلة عن جرائم من هذا النوع جرت خلال السنوات القليلة الماضية. ومن بين الأمثلة التي أوردتها الصحيفة نجد أن جريمة واحدة قد ارتكبت في كل من اليمن والأرجنتين وفنلندا واليابان وبريطانيا، وأن عدد القتلى تراوح فيها بين 3 و 16 قتيلاً، إضافة إلى الجرحى. وقد تساوت الصين مع كندا وألمانيا، حيث ارتكبت في كل منها 3 جرائم أودت بحياة 71 شخصاً نصفهم في ألمانيا. وبالطبع احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى في القائمة، حيث ارتكبت 9 جرائم أودت بحياة 59 شخصاً. ومن بين مرتكبي هذه الجرائم نجد طفلاً في سن الثانية عشرة وطالبة في حدود العشرين. وكل ذلك مجرد أمثلة لا إحصاءات.
وإذا ما اعتمدنا هذه الأمثلة وحاولنا إيجاد علاقة بين هذا الجرائم والمستوى الحضاري لهذه البلدان، نجد أن غالبيتها الساحقة إنما تُرتكب في البلدان الأكثر تقدماً، وأنها ترتكب من قبل أشخاص غالباً ما يوصفون بالمجانين، ولأسباب يمكن إرجاعها إلى اضطرابات نفسية ناشئة عن الإحساس بالقهر اليومي، الاجتماعي أو الاقتصادي أو العاطفي، بخلاف الجريمة التي وقعت في اليمن، والتي ارتكبت لسبب أيديولوجي أو أخلاقي: القاتل أطلق النار على تلامذة مدرسة مختلطة، لعدم موافقته على الاختلاط بين الجنسين.
وإذا ما توقفنا عند السبب الحضاري والمثال الأميركي تحديداً، يطرح السؤال حول سبب ارتفاع هذه النسبة في الولايات المتحدة مقارنة مع بلدان متقدمة أخرى كبريطانيا وألمانيا واليابان. لا شك بأن حرية امتلاك السلاح وحمله والتدرب عليه في الغالبية الساحقة من الولايات الأميركية تقدم جزءاً مهما من الإجابة. فالمعروف أن 200 مليون قطعة سلاح يحملها المواطنون الأميركيون، وهذا الرقم يشير إلى أن الأطفال ونسبة قليلة من النساء والمسنين هم وحدهم لا يمتلكون قطعة سلاح، ما يعني أن جميع الراشدين تقريباً مسلحون. والمعروف أيضاً أن هذه الأسلحة لا تشتمل على السكاكين وغيرها من وسائل القتل "الخفيفة"، بل تتراوح بين المسدسات والبنادق الرشاشة وقاذفات "البازوكا" وما شابه. والأميركيون يقبلون على شراء الأسلحة من متاجر منتشرة في كل مكان، وبإمكانهم أن يتدربوا عليها في نوادٍ وجمعيات خاصة. ولا يقتصر الجهد الحربي ـ المدني الأميركي على الأفراد، بل يتعداهم إلى الجماعات: في أميركا أكثر من 55 ألف عصابة أو ميليشيا مسلحة، كثير منها يسيطر على أحياء كاملة لا تستطيع الشرطة الرسمية أن توجد فيها.
وبالطبع هنالك علاقة بين الشغف الأميركي بالسلاح وارتفاع منسوب الجريمة. ففي العام 2008 سجلت في الولايات المتحدة ثلاثة ملايين عملية عنف، بينها 38 ألف عملية قتل "ناجحة". إضافة إلى ملايين عمليات السطو والسرقة والسلب وغيرها. وإذا كان الكثير من الجرائم قد يفسر بأسباب اقتصادية، فما الذي يعنيه انتشار الظاهرة بين الأطفال وتلامذة المدارس، وبالذات داخل هذه المؤسسات المتخصصة بإنتاج الحضارة بالطرائق العلمية. بين علماء التربية في عالم اليوم من يرفعون الصوت قائلين إن المدرسة هي عدوة العلم وعدوة الحرية، ويطلقون عليها صفات شبيهة بتلك التي يطلقونها على السجون أو على الأماكن التي تسود فيه شريعة الغاب. وأياً يكن الأمر، فإن عالم المدرسة هو المجتمع بالشكل الذي يعيشه الصغار. وإذا كان العنف سمة أساسية من سمات تكون ونشوء المجتمع الأميركي (تكفي الإشارة إلى رعاة البقر التاريخيين وأصناف الغانغستير، وإبادة 30 مليون من الهنود الحمر على أيدي مهاجرين أوروبيين أطلق أكثرهم من السجون)، فإن ثقافة العنف والقتل تجري عولمتها انطلاقاً من أميركا عبر التعليم، وعبر وسائل التعليم المستجدة في السينما والتلفزيون والانترنت وغيرها. وهذه الوسائل لا تأمر الأطفال بأن يقتلوا، لكنها تستخدم كل مبتكرات العلوم، وأولها علم النفس، في تقديم العنف والقتل والجنوح في الأفلام والمسلسلات بصور أخاذة، يصبح معها الشعار "أنا أقتل، إذن أنا موجود"، هو أحد أهم محركات الحياة النفسية عند الكبار والصغار على السواء.
شعار يبدو أنه سيزداد استشراءً في ظل تفاقم أزمة الحضارة، على مستوى تفسخ الأسرة والمجتمع، والبطالة، والأنانية، والضغط اليومي، والقحط الأخلاقي، والاكتئاب، والأزمة المالية الحالية. وعلى ذلك قد لا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي تستفيق فيه أميركا على حشود من الحروب الأهلية المتداخلة التي يهون بالقياس إليها كل ما شهده تاريخ العالم من فظاعات.. وجميع البلدان التي تعتمد نمط العيش الأميركي القاتل والمعولم.    
2009-03-19