ارشيف من :أخبار عالمية
تداخل الأمن والسياسة والاقتصاد في زيارة غول لبغداد
بغداد - عادل الجبوري
ما يقرّب ويجمع بين بغداد وأنقرة أكثر مما يفرقهما، هكذا تبدو صورة العلاقة بينهما، وهذا هو التوصيف الأقرب للواقع، وزيارة الرئيس التركي عبد الله غول الأخيرة للعراق التي جاءت بعد نحو تسعة شهور من زيارة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان له، اكدت في جانب كبير منها ذلك التوصيف، لانها بعبارة واضحة ومقتضبة عززت مسيرة تنامي العلاقات بين بغداد وانقرة، تلك المسيرة التي لم تشهد قدرا كبيرا من التعثر والتلكؤ خلال الاعوام الستة الماضية مثلما شهدته مسيرة العلاقات بين العراق واطراف اخرى عربية وغير عربية.
جاءت زيارة عبد الله غول بعد ثلاثة وثلاثين عاما من زيارة الرئيس التركي الاسبق للعراق فخري اوروتورك، أي انه خلال اكثر من ثلاثة عقود من الزمن لم يتحرك الخط البياني للعلاقات بين الجارين الى مستوى القمة من قبل الجانب التركي، الا يوم الاثنين الماضي، الثالث والعشرين من اذار/ مارس الجاري، ومن قبل الجانب العراقي الا قبل اعوام قلائل جدا.
وبما ان متغيرات جذرية قد حصلت في الواقع السياسي العراقي بعد التاسع من نيسان/ ابريل من عام 2003، فإن سياقات وترتيبات جديدة لا بد ان تكون قد فرضت نفسها على طبيعة علاقات العراق بمحيطه الاقليمي والعربي، وعلى نطاق اوسع بالوضع الدولي العام.
وبالنسبة لتركيا العقدة المحورية في علاقاتها مع العراق، ليست في دعم الارهاب، او العمل على فرض اجندات سياسية معينة على اساس مذهبي او طائفي كما هو الحال مع أطراف أخرى، بل تتمثل في حزب العمال الكردستاني المعارض (pkk) الذي يتخذ من بعض مناطق اقليم كردستان العراق (جبال قنديل وخواكورك وهاكاري) قاعدة له، وترى انقرة بسياسييها وجنرالات مؤسستها العسكرية ان حلحلة وفك تلك العقدة في اربيل وليس في بغداد، أي بعبارة اخرى ان مشكلة انقرة بشأن حزب العمال طرفها الاخر الاكراد العراقيون اكثر من غيرهم، وقد يكون ذلك هو السبب الرئيسي الذي حتم على رئيس حكومة اقليم كردستان نيجرفان البارزاني ان يأتي الى بغداد ويشارك في لقاءات الرئيس التركي، بل ويعقد معه لقاء خاصا، يبدو من خلال التصريحات المعلنة والتسريبات السرية انه كان صريحا، وأثمر عن وعود مشروطة من انقرة وتعهدات من اربيل بشأن التعاطي مع الـ(pkk)، وربما تدرس انقرة بجدية اقتراح الرئيس العراقي جلال الطالباني بإعلان عفو عام عن عناصر حزب العمال لتمهد انقرة بذلك الطريق لتوسيع افاق الحل لتلك المشكلة، في ذات الوقت يتم سحب البساط من تحت أقدام قيادات الحزب في حال لم تستجب للعفو المقترح، وتذعن لخيار القاء السلاح.
وهناك قضية مهمة لا بد من الاشارة اليها، وهي ان وصول حزب العدالة والتنمية الاسلامي (ذي الاتجاه المعتدل) الى السلطة في تركيا ساهم في تبني سياسات فيها قدر غير قليل من المرونة حيال جملة من القضايا من بينها قضية حزب العمال الكردستاني، او بإطار اوسع الملف الكردي المثير للجدل والسجال في داخل تركيا وخارجها، فالجناح السياسي للـ(pkk)، وهو حزب المجتمع الديمقراطي يمتلك واحدا وعشرين مقعدا في البرلمان التركي، وهناك مؤشرات واضحة برزت خلال الاعوام القلائل الماضية على استخدام اللغة الكردية الى جانب اللغة التركية، كذلك فإن الاوساط السياسية والاعلامية التركية اخذت تتعاطى مع الملف الكردي بطريقة مختلفة وبقدر اقل من التحفظات والمحاذير، واستخدام غول لمفردة "كردستان" في اكثر من مرة يعد احد تلك المؤشرات.
وهذه المرونة التركية، تريد انقرة ان يقابلها قدر كبير من الحزم والجدية في وضع حد للنشاطات المسلحة لحزب العمال التي ينطلق القسم الاكبر منها من اراضي اقليم كردستان العراق، هذا الى جانب التسهيلات السياسية التي تقول الكثير من التقارير الاستخباراتية التركية ان الاكراد العراقيين يوفرونها لقيادات وعناصر حزب العمال.
ولعل انقرة المتحمسة كثيرا لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينها وبين بغداد، ترى ان بقاء ملف الـ(pkk) على حاله يمكن ان يعرقل الى حد كبير تعزيز تلك العلاقات، فالاعلان عن رفع مقدار المبادلات التجارية بين البلدين من خمسة مليارات دولار الى عشرين مليار دولار خلال العام الجاري يتطلب من بين ما يتطلبه تهيئة اجواء ومناخات امنية وسياسات ملائمة، وحسم القضايا العالقة بطريقة عملانية وواقعية.
وحتى ملف المياه الذي يقلق بغداد كثيرا تسعى انقرة دائما الى ربطه مع القضايا والملفات الاخرى، وتريد ان تعالج الامور عبر صفقة واحدة(one package)، ووعود غول بمضاعفة حصة العراق من المياه في نهري دجلة والفرات خلال العام الحالي، هي في الواقع مقترنة بشكل او بآخر بالقضايا الاخرى، والشيء نفسه مع تسهيلات تصدير النفط العراقي عبر الاراضي التركية.
واذا كان توقيت زيارة عبد الله غول لبغداد قد ارتبط بإبرام اتفاقية تنظيم انسحاب القوات الاميركية من العراق والشروع بتنفيذها مطلع العام الجاري، فقد مثل رسالة واضحة مفادها ان انقرة ترغب بالتعامل مع العراقيين باعتبارهم اصحاب القرار الحقيقي، وان وجود هذا المبدأ سيساهم الى حد كبير في توسيع افاق التعاون والتواصل في مختلف المجالات، وفي تعزيز فرص وامكانيات حل المشاكل والعقد المستعصية بعيدا عن الضغوطات الخارجية، لا سيما عقدة حزب العمال، وعقدة كركوك ايضا، التي يعتقد ساسة عراقيون ان حلحلتها تعتمد على جملة عوامل من بينها منحى واتجاه العلاقات بين بغداد وانقرة، وبين الاخيرة واكراد العراق، وكذلك بين بغداد واربيل، وفي كل الاحوال فإن انقرة يمكن ان "تتدخل" ايجابيا لايجاد مخارج مقبولة ومعقولة ومرضية للفرقاء، وغول تحدث بهذا الاتجاه خلال لقائه النواب التركمان في مجلس النواب العراقي، اذ قال "ان كركوك تعد عراقا مصغرا، وانه ينبغي حل هذه المسألة بالتوافق الوطني والسياسي في إطار وضع خاص يحفظ حقوق جميع مكونات المدينة".
وفي كل ذلك فإن تداخل القضايا وتشابكها بين بغداد وانقرة، يعني ان هناك مصالح متبادلة ومشتركة كثيرة، وان كل واحدة تؤدي الى الاخرى، أي ان فتح باب ما من شأنه ان يفضي الى فتح ابواب اخرى غيره، ان كان ذلك في اطار السياسة او الاقتصاد او الامن.
هذا هو المبدأ العام، وبين بغداد وانقرة تبدو ضروراته ومقتضياته اكثر الحاحا وجدوى للاثنين معا. او مثلما اشرنا في السطر الاول .. ما يقرب ويجمع بين بغداد وانقرة اكثر مما يفرقهما.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018