ارشيف من :أخبار لبنانية
د. جورج قرم لـ"الانتقاد": أرجو أن تتعمق المعارضة فيما إذا انتصرت في النظر إلى الأوضاع الاقتصادية

يخلص وزير المال الأسبق جورج قرم إلى مقولة واحدة مفادها ان النهج الاقتصادي المعتمد من قبل الأكثرية قائم على التبذير والصفقات والمضاربات، وأدواته هي في "العقارات والمديونية"، وان القول بان فوز المعارضة في الانتخابات النيابية سيؤدي إلى كارثة اقتصادية هو "كلام انتخابي تهويلي".
قرم الذي يتبرم من ذكر الفريق الآخر(الموالاة) يمني النفس ان تفوز المعارضة في معركتها الانتخابية لتقوم بتغيير المعادلات القائمة "ورأينا أن هناك نوعية من الوزراء تأتي بها المعارضة تختلف تماماً عن وزراء النهج الاستثماري الأجنبي في لبنان".
ولان "العتب" عادة ما يأتي "على قدر المحبة" يسدي قرم للمعارضة ما يشبه النصيحة بان عليها ان تتعمق كثيراً في الملف الاقتصادي لوضع خطة جدية لنقله من الاقتصاد الريْعي إلى الاقتصاد المنتج.
بالرغم من انشغالاته الكثيرة أفرد وزير المال السابق جورج قرم (في حكومة الرئيس سليم الحص) مساحة من الوقت لكي يقرأ لـ "الانتقاد" المستجدات عشية الانتخابات النيابية، وماذا سيكون عليه الوضع الاقتصادي فيما لو فازت الموالاة أوالمعارضة.
استمعت الى ما قاله رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري عندما اعتبر ان فوز المعارضة في الانتخابات النيابية سيوصلنا الى كارثة اقتصادية.. للوهلة الاولى، ماذا استشفيت من هذا الكلام؟
ـ لم استشفّ منه شيئاً سوى متابعة النهج السابق لوالده الذي أوهم اللبنانيين أيضاً انه لو غاب رفيق الحريري ستنهار الليرة اللبنانية وتسوء الأوضاع الاقتصادية، وما حصل هو عكس ذلك فعندما أتت حكومة الرئيس سليم الحص عام 1998 لم تنهار الليرة اللبنانية، بل بالعكس انخفضت الفوائد على العملة الوطنية ما حسّن من الوضع المالي العام، ولكن عندما عاد الرئيس رفيق الحريري للحكم، وطبق السياسات السابقة الاقتصادية نفسها تدهور وضع الليرة واضطر حينها إلى طلب المعونة المستعجلة من جاك شيراك ومن الدول المانحة وحصل آنذاك اجتماع باريس 2. ما يقال راهناً ربما هو جزء من الحملة الانتخابية والتهويل على عقول الناس بأن لا إزدهار في لبنان في غياب الاموال الخليجية، وغياب المستثمرين الخليجيين وفي غياب سيطرة الفريق "الإعماري" السابق على مقدرات البلد.
تحدثت عن محاولة اتباع النهج السابق للرئيس الحريري، هل يعني اننا سنكمل في سياسة المديونية ؟
ـ المشكلة قائمة أصلاً، وسبق ان ذكرت اننا ندور في حلقة مفرغة، وكنت قد وضعت برنامجاً للتنقية المالية، ومعالجة الدين العام، إنما اليوم لا أحد يهتم بالدين العام، لان المصارف اللبنانية ايضأ غيرت من سلوكها فهي تعيد تمويل الدين العام وبفوائد أقل بكثير مما كانت عليه سابقاً باعتبار أن هناك ربحاً مضموناً للمصارف التي تحمل ستين بالمئة من الدين اللبناني، ولها مصلحة في إعادة تمويل هذا الدين وزيادته السنوية المتواصلة بفعل تراكم الفوائد على أصل الديْن وعدم إجراء أي إصلاح جدي لكسر هذا الوضع الشاذ
هل اللجوء إلى هذا الاسلوب يشي بمأزق تعيشه الاكثرية عشية معركتها الانتخابية؟
ـ بصراحة انا لا اعطي أهمية لكلام فريق الاكثرية، وبالتالي لا يجب إعطاؤهم اهمية في الاعلام اللبناني، فكلامهم مكرر ورتيب، وهو نفسه منذ قضية السوليدير، عندما قالوا إذا لم يتم هذا المشروع ستخرب بيروت، وها نحن اليوم بعد عشرين سنة رأينا إبادة إعمارية فظيعة، خسرنا أجزاء أثرية مهمة من عاصمتنا، والورشة ما زالت قائمة، والهندسة الاعمارية بشعة، في حين تم تدمير أكثر من ستمئة مبنى تاريخي وأثري في العاصمة، فضلا عن وضع اليد على ممتلكات وأرزاق الناس. وهذا المشروع وأسلوب اعتماده جسَّد الدكتاتورية التي نشأت، واليوم في السنتين الاخيرتين تراجعت هذه الدكتاتورية الحمد لله، ونأمل من الانتخابات النيابية ان تستكمل اجبار الاكثرية على ترك نهجها في التعالي والتكبر، وهذا الميل الديكتاتوري والاستخفافي للعقل اللبناني، لان هذه الاكثرية وما تمثله من رموز اقتصادية ومالية ومن نفوذ اجنبي هي التي أوصلت البلد إلى حالة المديونية المفرطة والبطالة والتهميش لفئات واسعة من الشعب، وان إزالة هذا الواقع هي بداية فتح لافق الاصلاح.
من هنا هل يمكن القول ان المعركة الانتخابية في جزء منها معركة الإمساك بالملف الاقتصادي، خصوصا ان هذا الملف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بآل الحريري؟
ـ ما زال الوضع هو نفسه، فمن يمسك بالملف الاقتصادي كما ذكرت هو دول الخليج مع بعض الدول الغربية، ويتم إقناع اللبنانيين انه من دون المساعدات الخارجية وبشكل الخاص المساعدات الخليجية والاستثمارات الخليجية لا خلاص للبنان، هذا منطق اعوج.. لأنَّ هناك قدرات تنافسية كائنة في الاقتصاد اللبناني وغير المستغلة: من القدرات البشرية، من مخزون المياه، من التربة الخصبة من التعدد البيولوجي.. حتى المعارضة لا تعالج الملفات الاقتصادية بالشكل العميق.
ماهي الفلسفة الاقتصادية التي يقوم عليها مشروع الفريق الاكثري؟
ـ أن يتحوّل لبنان إلى مونتي كارلو للأثرياء وأن يلحق لبنان سياسياً بمحور الدول الغربية وما يُسمَّى دول الاعتدال العربية.
لكن هذه المديونية أعادت بيروت عاصمة حضارية؟
ـ يا أخي بيروت رجعت إلى ما قبل السبعينيات، أي أغلبية سكانها يعيشون على خط الفقر، وبإمكانيات متواضعة، مع تركز ثروات هائلة وخيالية في أياد قليلة.. ما الذي تغير في بيروت ؟.. فنادق، سياحة، أنها كانت موجودة سابقاً؟!
إذاً ماذا يمكن أن تغّير المعارضة فيما لو فازت في الانتخابات النيابية؟
ـ المطلوب العمل على نقل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد ريْعي يقوم على استقدام الأموال من الخارج والصفقات والمضاربات إلى اقتصاد منتج ، وهذا من شأنه أن يؤدي الى تراجع الفساد في البلاد ان شاء الله، ويسمح في معالجة الملفات الصعبة بجدية أكبرـ سواء في ملف الكهرباء، أو ملف الهاتف، وربما ملف المديونية، هذه الملفات تتطلب جدية، ورأينا أن هناك نوعية من الوزراء تأتي بها المعارضة تختلف تماماً عن وزراء النهج الاستثماري الأجنبي والنهج المعوِّل على الخارج في لبنان.
أنت كنت وزيراً للمال، من خلال تجربتك بماذا تنصح المعارضة؟
ـ نصيحتي مكتوبة، وهي الانتقال من اقتصاد ريعي مبني على تبذير قدرات البلاد الإنتاجية وهجرة الأدمغة، كما ذكرت، إلى اقتصاد منتج يستغل كل القدرات اللبنانية.. بح صوتي.. هجرة الأدمغة فضيحة كبيرة ، تلوث المياه وعدم استغلالها وتبذيرها في البحر جريمة، لدينا التعدد البيولوجي الذي يمكن ان نبني عليه صناعة أدوية مهمة ولكننا لا نرى شيئاً من ذلك، وعليه نرى اللبنانيين يهاجرون ويحل محلهم المستثمرون الأجانب في القطاع المالي والسياحي والعقاري.
.. لكن الطرف الآخر يقول إن المعارضة لا تملك رؤية شاملة للاقتصاد؟
(مقاطعا) لا يهمني ما يقول الآخر .. نذكر في الوقت الذي قيل ليس هناك رؤية مقابل السوليدير كانت هناك آلاف الصفحات تكتب عن هذا الموضوع، وآلاف الصفحات لمشاريع بديلة؟! انا لا اعلق على الكلام الإعلامي الذي لا يراعي الموضوعية والواقع .. هذا ضياع للوقت وضياع قدرة فكرية.
هل يمكن اعتبار حركتك اليوم في صف المعارضة؟
ـ انا معادٍ لكل نهج اقتصادي يؤبِّد هذا التبذير الاقتصادي المتواصل، وهذه الاتكالية على المعونات الخارجية، وهذه كلها نتيجة السياسات الاعمارية التي كتبت عنها الكثير.
هل المعركة الانتخابية في جوهرها معركة اقتصادية أم سياسية، أم الاثنان معاً؟
ـ كما تعلمون لبنان إلى حد بعيد ساحة، طبعا المعارضة لديها دوافع وطنية، وهي التي تبنت المقاومة التي حررت الأرض، وأنا أكن لها من هذا المنطلق كل الاحترام والتقدير، وأرجو أن تتعمق المعارضة فيما إذا انتصرت في النظرة الاقتصادية، كون هذه النظرة لا تزال غير متكاملة لدى أحزابها الرئيسية. مع ان الحلول في متناول يد الجميع.
ربما من هنا كانت حجة الفريق الآخر أن المعارضة لا تملك رؤية متكاملة؟
(مقاطعة) لا، لا.. لا تنسَ ان الفريق الآخر يمسك بالفعاليات الاقتصادية في البلد، باستثناء ربما جمعية الصناعيين، وأن نهجه هو ذاته: صفقات، مضاربات، عقارات، مديونية، اتكالية على المعونات الخارجية وتحويلات المغتربين.
برأيك إلى أين سنصل بالمديونية العامة؟
ـ أولا هناك فضيحة في ما خص قطع حسابات الإنفاق والإيراد للدولة للسنوات التي لم يصادق فيها على الموازنة العامة أو لم تحول الحكومات المعنية الموازنة الى المجلس. لا أحد يطالب بها سواي. والدين العام الرسمي المعروف هو 47 مليار دولار، أما متأخرات الدولة فكبيرة جدا، وآخر إحصاء لها كان أيام وزير الاقتصاد إلياس سابا (من وزراء المعارضة)، وأتصور أنها بين 4 الى 5 مليارات دولار نهاية 2004، وربما اليوم أصبحت 7 إلى 8 مليارات دولار. على أي حال ليس هناك أرقام في هذه الجمهورية، فضلاً عن ان ممثلي الشعب في المجلس النيابي لا يطالبون الحكومة بوضع قانون لقطع الحسابات، في حال ليس هناك موازنة!
بماذا تفسر أن الحكومة إلى الآن لم تقر بعد مشروع الموازنة العامة للعام 2009، وقبلها من العام 2005، وتعمل بدلاً من ذلك على القاعدة الاثني العشرية؟
ـ طبعاً.. لأن العمل على أساس هذه القاعدة يعطي رئيس الوزراء هامش مناورة كبيرا، بحيث لا إمكانية للرقابة في ظل عدم تقديم قطع حسابات الدولة لمعرفة ما إذا كانت تحترم هذه القاعدة أم لا.. والناس جميعهم لا يتحدثون عن هذه الفضيحة.
.. هل دخلنا "العصفورية"؟
ـ دخلنا من زمن.
أين أنت من هذا العالم؟
ـ (يبتسم) أنا مشاهد وأستاذ جامعي، ولدي أبحاث اقتصادية وموقع إلكتروني.
سؤال أخير: ما دمت ثائرا على هذا الوضع، فلماذا لا تساهم مع المعارضة في رسم السياسة الاقتصادية للبلد؟
ـ أنت إذا أردت أن تعطي خبرة فعلى الآخرين أن يسألوا. فأنا خبرتي موجودة وكتاباتي شبه يومية، فضلا عن الأحاديث والتصريحات والمؤتمرات والمحاضرات والمقالات التي تصدر بشكل دائم.
حوار : حسين عواد، تصوير : عصام قبيسي
الانتقاد/ العدد1340 ـ 3 نيسان/ أبريل 2009