ارشيف من :أخبار عالمية

أزمة رئاسة البرلمان العراقي: المحاصصة وعدم الثقة السياسية والديمقراطية التوافقية

أزمة رئاسة البرلمان العراقي: المحاصصة وعدم الثقة السياسية والديمقراطية التوافقية
بغداد ـ عادل الجبوري
بعد أربعة شهور من الجدل والسجال والشد والجذب، أفلح مجلس النواب العراقي في اختيار رئيس له خلفا لرئيسه السابق المستقيل رغما عن ارادته محمود المشهداني. فهذا الاخير اعلن عن استقالته في الخامس والعشرين من شهر كانون الاول/ ديسمبر الماضي، بعد ان بلغ السيل الزبى، ولم يعد على استعداد للتعاطي كرئيس للبرلمان. وفي التاسع عشر من شهر نيسان/ أبريل لاح "الدخان الابيض" من مبنى قصر المؤتمرات ـ مقر مجلس النواب العراقي حاليا ـ بعد ان اختير القيادي في الحزب الاسلامي العراقي وجبهة التوافق العراقية النائب اياد السامرائي رئيسا للمجلس عبر التصويت السري المباشر، اذ حصل على 153 صوتا، فيما حصل منافسه الوحيد من مجلس الحوار الوطني مصطفى الهيتي على 34 صوتا فقط، من مجموع 232 نائبا حضروا الجلسة، بينما ترك 45 نائبا أوراق اقتراعهم بيضاء.
ولم يكن خافيا على المتابعين ما شهدته الشهور الاربعة الاخيرة من تجاذبات حادة وخطيرة، كادت تعصف بالعملية السياسية وتعيدها خطوات الى الوراء.
اكثر من سياسي عراقي، بعضهم نواب في البرلمان وبعضهم قياديون في قوى سياسية ومسؤولون كبار في الدولة، أكدوا ان سبب تأخير حسم رئاسة البرلمان يعود الى مبدأ المحاصصة السياسية، والى انعدام الثقة بين الشركاء ـ او قل الفرقاء ـ السياسيين.
وإذا افترضنا ان ذلك صحيح، وهو صحيح بالفعل الى حد كبير إن لم يكن بالكامل، فهذا يعني ان ازمة رئاسة البرلمان هي في واقع الامر جزء من ازمة سياسية متعددة الابعاد والجوانب، وهي ليست قابلة للحسم والحل بطريقة نهائية وجذرية، لأنها باتت واحدة من مظاهر الحياة السياسية العراقية بعد التاسع من نيسان/ أبريل 2009، نتيجة طبيعة التحولات والمتغيرات الكبرى الحاصلة، التي لم يكن ممكنا توجيهها وتكييفها بطريقة ترضي كل الأطراف.
وإذا كان للمحاصصة السياسية المرتبطة بعناوين طائفية ومذهبية وقومية ودينية إيجابياتها في مجتمع متنوع حديث العهد بتجربة ديمقراطية جديدة، فإن لها سلبياتها ومساوئها ايضا، خصوصا اذا تحولت الى جزء من منظومة أعراف وتقاليد دستورية ترقى في قوتها الى النصوص الدستورية، ان لم تتفوق عليها.
وقد لا يكون غريبا ان يتوقع الكثير من المواطنين العراقيين، وكذلك الساسة، ان لا تحسم ازمة رئاسة البرلمان الا بعد وقت طويل، او انها تبقى تدور في حلقة مفرغة لتصبح مثل داء مزمن يصيب شخصا ما، يزعجه ويؤذيه في بداية الامر، الا انه مع مرور الوقت يتكيف ويتأقلم معه لإدراكه انه لا حل او علاج أفضل من التكيف والتأقلم والقبول بالأمر الواقع.
فالأزمات السياسية السابقة المرتبطة بقضايا حساسة وخطيرة، لم تحسم اي واحدة منها خلال وقت قصير، ومعظمها ـ ان لم يكن جميعها ـ لم يحسم تحت قبة البرلمان، بل في كواليس اخرى، كما هي الحال مع رئاسة الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية العامة، وقانون العدالة والمساءلة، والموازنة المالية للعام 2008، وقانون العفو العام، وقانون مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم، وغيرها.
وإن كل ذلك مرده تعقيدات مبدأ المحاصصة السياسية والتوازنات الدقيقة في تركيبة وهيكلية المؤسسات السياسية العليا في الدولة، الى جانب "اللاثقة السياسية" (political mistrust) بين الفرقاء السياسيين.
ولعل خيار التصويت على ثلاثة مشاريع قوانين مرة واحدة (one package)، كما حصل بعد سجال مضنٍ وطويل أواخر العام 2007 ومطلع العام 2008، حينما بدا ان الكتل البرلمانية وصلت الى طريق موصد بشأن مشروع الموازنة المالية لعام 2008، وقانون المساءلة والعدالة، وقانون العفو العام عن السجناء والمعتقلين، كان التصويت على حزمة القوانين بمثابة المخرج المناسب من الطريق الموصد، لأن كل طرف من الاطراف لم يكن مستعدا للتصويت على مشروع قانون فيه مصلحة بدرجة اكبر من الناحية السياسية للطرف الآخر، لأنه لم يكن واثقا من تصويت الآخر في مرحلة لاحقة على مشروع القانون المتبنى من قبله.
وهكذا الأمر بالنسبة الى التعيينات في المواقع العليا والدرجات الخاصة، كالوزراء ووكلاء الوزارات والمستشارين والمدراء العامين ورؤساء المؤسسات المهمة التي توازي من الناحية الادارية والسياسية الوزارات.
ومن الآثار والنتائج السلبية لاتباع هذا المبدأ انه غالبا ما يكون على حساب الكفاءة والمهنية، وأنه يوفر غطاء لإساءة استخدام السلطة ولعمليات الفساد الإداري والمالي التي بلغت مستويات خطيرة ومقلقة.. وهذا ما تؤكده الأرقام والتقارير والتصريحات الرسمية.
وسواء شئنا ام أبينا فإن صورة ازمة رئاسة مجلس النواب العراقي خلال الشهور الاربعة الماضية مثلت في واقع الامر نسخة مصغرة وطبق الأصل عن الصورة الكلية للواقع السياسي العراقي.
فالاعتراضات التي انطلقت منذ وقت مبكر من الازمة على تنصيب اياد السامرائي رئيسا للبرلمان خلفا لمحمود المشهداني، جاءت اما لأن هذا الموقع لا يمكن من وجهة نظر البعض ان يؤول الى الحزب الاسلامي العراقي، لأنه وفق مبدأ المحاصصة هذا الاخير يحوز منصب نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء، وبما ان محمود المشهداني ينتمي الى مجلس الحوار الوطني فإن خليفته ينبغي ان يكون من نفس الكيان. واما ان تلك الاعتراضات جاءت بسبب وجود مؤشرات وقراءات لدى بعض الاطراف بأن هناك أجندات سياسية يراد تمريرها، وأن تنصيب السامرائي رئيسا للبرلمان من شأنه ان يسهل عملية التمرير هذه، هنا "اللاثقة السياسية" تكون من بين العوامل التي وجهت وحددت المواقف والتوجهات.
وحتى مع ما آلت اليه الامور في نهاية المطاف، فإن قدرا كبيرا من التوافقات والترتيبات السياسية خلف الكواليس لعبت دورا ربما كان حاسما في توجيه الامور نحو الحلحلة والانفراج. فلو كان يراد اطالة عمر الازمة وعرقلة تنصيب السامرائي، لقوطعت جلسة مجلس النواب من قبل الكتل المعترضة والمتحفظة، ولما انسحب كل المرشحين ما عدا واحدا فقط هو مصطفى الهيتي الذي خاض نزالا مع السامرائي كان واضحا منذ البداية انه غير متكافئ، وأن نتيجته محسومة للأخير.
ان العمل بمبدأ المحاصصة يعني في ما يعنيه العمل بصيغة الديمقراطية التوافقية التي من الطبيعي جدا ان لا تكون فيها مساحة الثقة السياسية كبيرة جدا بين الشركاء او الفرقاء السياسيين، والعراق ليس استثناءً في ذلك، لكنه ربما يكون النموذج الأكثر وضوحا من سواه.
2009-04-21