ارشيف من :أخبار عالمية
الشهيد محمود عاصي.. الأب المشتاق .. حبيب الدّار وغائبها دوماً..

رام الله - ميرفت عمر
فاتن محمود عاصي، منذ ثلاث سنوات وهي تحلم بصوت أبيها يتردد بداخلها دون أن تتمكن من السفر إلى الضفة، ومؤخرا، قررت أن تغادر زوجها وأبناءها في الأردن باتجاه الضفة الغربية لعلها تطمئن اليه بعد أنباء مطاردته التي لا تسمع سواها أثناء محادثاتها الهاتفية مع أشقائها في قرية قراوة بني حسان غربي محافظة سلفيت..
وصلت فاتن قبل أسبوع فقط، وعبثا حاول أشقاؤها البحث عن والدهم المطارد من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، كي تنعم هي بدفء يديه، وينعم هو بابنته الكبرى "التي أحبها أكثر من أي شخص آخر".. وهي الوجه الذي تأمل صورته كثيرا في زوايا خيام "مرج الزهور" حين إبعاده عام 1990..
لقاء على جثة..
بعد أيام من حضورها، وجدت فاتن والدها "محمود عاصي" أمامها، ولكن دون ابتسامة حب أو حضن مشرع بانتظارها... ارتمت على جثته المقتولة قبل ساعات، وبكت طويلا، ... "لطالما اشتاقت إلى صوته ويديه وحلمت بلقائه..." ولو بعد سفر..
استشهد الأب محمود عثمان عاصي، أحد أهم مؤسسي كتائب القسام ـ الجناح العسكري لحركة حماس في منطقة سلفيت شمال الضفة الغربية، كما أعلن في جنازته.. وخلف وراءه أربعة أبناء مشلولين من صدمتهم باستشهاده، وأبناء آخرين لم يسعفهم الوقت بالنظر إليه يوما.. مثل ابنه الأصغر أحمد (10 أشهر) الذي ولد أثناء مطاردته..
تقول رفيقة معاناته، زوجته "أم علاء" التي اقترنت به منذ 28 عاما، وغاب عنها طويلا فيما بعد: لم تكن حياة أبو علاء سهلة يوما، لقد مضت السنوات بين الاعتقالات التي لم نذكر عددها، وبين الإبعاد، وأخيرا بين المطاردة أيضا.. حتى غاب كما أحب يوما... "شهيدا".
اعتقل الشهيد محمود عاصي في فترات متقطعة تجاوزت الثماني سنوات.. كان مطلع عام 1990 بدايتها حيث قضى عدة أشهر سجينا، وفي الرابع عشر من كانون الأول بنهاية ذلك العام قررت السلطات الإسرائيلية إبعاده ضمن 400 شخصية إسلامية فلسطينية بسبب علاقتهم بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، حيث مكثوا 9 أشهر في منطقة "مرج الزهور" الحدودية في الجنوب اللبناني، دون أن يخضعوا لقرار إبعادهم... حتى عادوا.
ولم ينته مسلسل تعذيب هذا الرجل بعد ذلك، فعند وصوله الى قريته علم أن شقيقه الأصغر، والأقرب إلى قلبه "علي" ملاحق من قبل جيش الاحتلال... وعلى هذا مضى "أبو علاء" بقلب ملوّع يعيش في انتظار انتهاء هذا الألم.. حتى أستشهد "علي" في 11-7-1994، بعد أن قررت إسرائيل قتله لـ"تورطه" كما قالت في سلسلة عمليات ارتبطت باسم المهندس يحيى عياش.
علي سكن فيه
يوم استشهاد "علي"، تقول أم علاء: تقبل زوجي النبأ بصبر وثبات كما عهدناه، ولكن طيلة السنوات الطويلة فيما بعد كنا نشعر أن روح شقيقه الشهيد كانت تسكنه، ولم تفارق حديثه أو ذكرياته يوما.. وهم الأكثر قربا إلى بعضهما البعض.
ومنذ بداية انتفاضة الأقصى تعرض الشهيد أبو علاء للاعتقال والملاحقة، كان آخرها عام 2003 لمدة تسعة أشهر على خلفية نشاطه في المقاومة الفلسطينية... وطيلة هذه السنوات، تقول أم علاء: "كنا نتدبر أمورنا مع الأولاد بنصائحه التي لا تتوقف، بالأخلاق الحميدة التي زرعها في أبنائه وبحرصه على تمسكهم بالصلاة ومعاملة الناس بالحسنى".
وعن قصته الأخيرة مع المعاناة، تروي أم علاء أن مطاردة زوجها الشهيد بدأت منذ 19 تموز 2007، حين باشرت قوات الاحتلال بتنفيذ اقتحامات متكررة لمنزله بغية اعتقاله أو قتله، دون أن تتمكن من ذلك.
تقول زوجته: إن العائلة بأكملها لم تتمكن من الاتصال به على مدار العام الماضي، "ولم نكن نعرف إن كان يعيش في الجبال أو بأي مكان آخر".. ولم نكن نملك له سوى الدعاء.. في حين تعرض أبناؤه للاعتقال مرات عديدة بغية الضغط عليهم من أجل الكشف عن مكان اختبائه، دون جدوى.
فجر استشهاده..
وفي التاريخ ذاته الذي يؤرخ لاستشهاد الشقيق الأصغر "علي" بعد 14 عاما على ارتقاء علي، تناثرت قطرات دم "أبو علاء" قريبا من قريته، بعد أن خاض اشتباكا مسلحا لعدة ساعات مع قوة إسرائيلية خاصة، وتمكن خلاله من إصابة ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي ومستوطن من مستعمرة "ياكير" المجاورة... وبهذا بقيت "أم ربحي" والدة الشهيدين.. بابن وحيد فقط بعد فقدانها "علي ومحمود"، وبدعوة رضا لهما رددتها طويلة أثناء وداع الأخير.
في فجر استشهاده، تُرك محمود عاصي ملقى في دمائه بعد تسليمه للهلال الأحمر في مدينة سلفيت، فيما مضى الجنود الإسرائيليون إلى بيته في قرية قراوة بني حسان، وبدأوا بإرهاب العائلة وتشريدها من المنزل واعتقال أبنائه الأربعة من بينهم عثمان، المصاب بشلل دائم..
"ماذا فعلنا، لماذا تعتقلون الأولاد.." كانت تصرخ أم علاء.. ويرد الجنود :"ستعرفين بعد قليل.." أخبروها، واقتادوا أبناءها "علاء وحمزة وعثمان ومثنى.." إلى سجن لم يعلموا فيه عن استشهاد والدهم إلا بعد أيام... "وكان الله بعونهم.." كما نقل المحامي الذي أخبرهم.
وتضيف الزوجة إلى حسرتها، خوفها على ابنها "عثمان" بشكل خاص، وهو الذي يعاني من شلل دائم لم يوفر له الرحمة بأن لا يتم اعتقاله...
تقول أم علاء: "أمضينا عشر سنوات ليتمكن عثمان من المشي على قدميه بعد حادث تعرض له.. لكنهم في كل مرة يحضرون لاعتقاله ويعذبونه لدرجة فقدانه القدرة على الوقوف..".
أبوهم أستشهد..
"وبعد قليل" من اعتقالهم كما أبلغها الجنود، راح اسم "محمود عاصي" يتردد في أوساط أهالي القرية، وبدأت المساجد تتلو آيات قرآنية.. "حتى أيقنا كما كنا نشعر سابقا، أن أبا علاء قد أستشهد..". وحينها نطقت أم علاء "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، ثم مضت تذكر أسماء أبنائها الأربعة وتتمتم بين الصحو والغيبوبة: "احكولهم أبوكم استشهد.."..
لم تطل غيبوبة أم علاء، استفاقت واستعدت مع ابنتها فاتن وأبنائها الصغار لوداع كبير الدار، وصاحب السمعة الطيبة بين أبناء قريته... تقول في نهاية حديثها: "قضى أبو علاء حياته متعبا بين الاعتقال والإبعاد والمطاردة، من أجل أن ينال الشهادة يوما.. وها قد ارتاح بها، وبرغم ألمنا إلا أننا سعداء بهذا الشرف.. الله يعطيها لكل طالب..".
الانتقاد/ العدد1281 ـ 15 تموز، يوليو 2008