ارشيف من :آراء وتحليلات
عن بعلبك الهرمل وطفّارها

كتب أمير قانصوه
يبدو نهر العاصي في هذه الأيام الربيعية مثالاً واضحاً لحالة هروب مستمرة شمالاً، يركب مجراه "طافراً" وكأنه ملاحق بجريمة انه ينبع من الطرف الشمالي لسهل البقاع. انه كما كل المولودين في تلك المنطقة الذين قدرهم أن يكونوا هاربين إما الى العاصمة أو الى أصقاع الارض أو في جرودها النائية.
عندما قامت الدولة ورسمت حدودها في مطلع القرن الماضي لم تستطع القبض على العاصي لإعادته الى حضن الوطن، أو على الأقل جزء منه، وحتى عندما قررت بعد طول عناء ومطالبة من أبناء المنطقة وممثليها اعتقال حصتها من مياه العاصي لتحويلها الى الاراضي العطشى الواقعة على ضفتيه الغربية والشرقية أنتجت سداً صغيراً، بدا أقل من الطموح، والى الآن هذا السد معلق لاستكمال التنفيذ، ولا أحد يعلم الى متى يبقى كذلك.. ولذلك يبقى النهر غريباً عن موطنه.
ونهر العاصي هو خير مثال عن واقع منطقة بعلبك الهرمل التي لم تهرب يوماً من الدولة، ولم تكن طوال تاريخها عصية على السلطة، لكن "الدولة" هي التي حاصرت هذه المنطقة في شرنقة الحرمان وكأنها ملحق في وطن. حتى أن أبناء المنطقة يتندرون فيما بينهم بحكايات كثيرة عن سياسة اجهزة السلطة وكيف كانت تعمل لزرع الفتن بين عائلاتها، وكيف كانت تسعى بعض الزعامات من خارج عشائر المنطقة وعائلاتها بدعم من تلك الاجهزة الى بناء حظوتها داخل ذلك النسيج المترامي الاطراف بين السلسلتين الجبليتين الشرقية والغربية وعلى سفحهما، حتى أن البعض يذكر أن اسماء كثيرة ذاع صيتها في عالم الطفّار هي اما صنيعة تلك الزعامات أو شريكتها.
على هذا المنوال لم تذهب الحكومات المتعاقبة طوال العهود الماضية الى بعلبك الهرمل لضمها الى نعيم السلطة، لا بل تركتها تغرق في بحر الحرمان، ومن يخنقه الحرمان قد يبحث عن أي ثغرة يتنشق من خلالها هواء الحياة ويعوّض منها ما حرم منه بقوة السلطة والامتيازات والمحسوبيات.
واذا كان كثير من اللبنانيين يسمعون بمفردات من نوع الحرمان والإنماء المتوازن والمطالب المحقة... فانها في بعلبك الهرمل (كما في مناطق أخرى) تجد مصاديق لها، من نوع غياب الكثير من الخدمات من شبكات الصرف الصحي ومياه الشفة والتعليم العالي الى الطرقات غير المؤهلة، والاهم من كل ذلك هو غياب المشاريع التنموية على مستوى الزراعة والصناعة والسياحة، والتنمية هي المسلك الوحيد القادر على ازالة الحرمان المزمن.
وحتى لا نكون اسرى الصور النمطية التي يرغب البعض هذه الايام بتعميمها فان هذه المنطقة شهدت في السنوات الماضية بجهود نواب المنطقة وبلدياتها نهضة في حدود معقولة من خلال اقرارها كمحافظة تحتاج الى المراسيم التطبيقية التي تنقلها من الورق الى الواقع، كما في توفير بعض الخدمات، من ضمنها تحسين شبكات الطرقات الرئيسية والداخلية وبعض المشاريع الصحية والتربوية ومشاريع الري والبرك الاصطناعية، يضاف اليها الكثير من المشاريع التي ترعاها مؤسسات المقاومة والمجتمع المدني على المستوى الصحي والتربوي والخدمات المختلفة، منها مراكز الارشاد الزراعي، وابرز ما يجري تنفيذه حالياً هو اوتوستراد بعلبك ـ البزالية الذي تنفذه الهيئة الايرانية للمساهمة باعادة اعمار لبنان، والذي يؤمل استكماله حتى بلدة القاع.
وفي الموسم الانتخابي الذي يحضر الى هذه المنطقة على وقع الأحداث الامنية التي شهدتها، فان اقل ما يمكن أن تطالب به بعلبك الهرمل هو ان تأتيها الدولة يوماً بالانماء الحقيقي بنفس الإيقاع الذي تحضر إليها بالأمن، وأن يجد هذا الانماء حاضنته الوطنية الواسعة كما هو الحال في القضايا الطارئة.
ان بعلبك الهرمل هي جزء من هذا الوطن الكبير، كان أبناؤها السباقين الى المشاركة بصون سيادته وحدوده، وبناء مستقبله، وهي في الواقع ليست هاربة من الدولة كما يحلو للبعض أن يصورها، بل الدولة هي الهاربة منها، والتي يجب أن تعود اليها عبر جسر وحيد هو الانماء الحقيقي الذي ينهض بالمنطقة وبأبنائها.
الانتقاد/ العدد1343 ـ 24 نيسان/أبريل 2009
يبدو نهر العاصي في هذه الأيام الربيعية مثالاً واضحاً لحالة هروب مستمرة شمالاً، يركب مجراه "طافراً" وكأنه ملاحق بجريمة انه ينبع من الطرف الشمالي لسهل البقاع. انه كما كل المولودين في تلك المنطقة الذين قدرهم أن يكونوا هاربين إما الى العاصمة أو الى أصقاع الارض أو في جرودها النائية.
عندما قامت الدولة ورسمت حدودها في مطلع القرن الماضي لم تستطع القبض على العاصي لإعادته الى حضن الوطن، أو على الأقل جزء منه، وحتى عندما قررت بعد طول عناء ومطالبة من أبناء المنطقة وممثليها اعتقال حصتها من مياه العاصي لتحويلها الى الاراضي العطشى الواقعة على ضفتيه الغربية والشرقية أنتجت سداً صغيراً، بدا أقل من الطموح، والى الآن هذا السد معلق لاستكمال التنفيذ، ولا أحد يعلم الى متى يبقى كذلك.. ولذلك يبقى النهر غريباً عن موطنه.
ونهر العاصي هو خير مثال عن واقع منطقة بعلبك الهرمل التي لم تهرب يوماً من الدولة، ولم تكن طوال تاريخها عصية على السلطة، لكن "الدولة" هي التي حاصرت هذه المنطقة في شرنقة الحرمان وكأنها ملحق في وطن. حتى أن أبناء المنطقة يتندرون فيما بينهم بحكايات كثيرة عن سياسة اجهزة السلطة وكيف كانت تعمل لزرع الفتن بين عائلاتها، وكيف كانت تسعى بعض الزعامات من خارج عشائر المنطقة وعائلاتها بدعم من تلك الاجهزة الى بناء حظوتها داخل ذلك النسيج المترامي الاطراف بين السلسلتين الجبليتين الشرقية والغربية وعلى سفحهما، حتى أن البعض يذكر أن اسماء كثيرة ذاع صيتها في عالم الطفّار هي اما صنيعة تلك الزعامات أو شريكتها.
على هذا المنوال لم تذهب الحكومات المتعاقبة طوال العهود الماضية الى بعلبك الهرمل لضمها الى نعيم السلطة، لا بل تركتها تغرق في بحر الحرمان، ومن يخنقه الحرمان قد يبحث عن أي ثغرة يتنشق من خلالها هواء الحياة ويعوّض منها ما حرم منه بقوة السلطة والامتيازات والمحسوبيات.
واذا كان كثير من اللبنانيين يسمعون بمفردات من نوع الحرمان والإنماء المتوازن والمطالب المحقة... فانها في بعلبك الهرمل (كما في مناطق أخرى) تجد مصاديق لها، من نوع غياب الكثير من الخدمات من شبكات الصرف الصحي ومياه الشفة والتعليم العالي الى الطرقات غير المؤهلة، والاهم من كل ذلك هو غياب المشاريع التنموية على مستوى الزراعة والصناعة والسياحة، والتنمية هي المسلك الوحيد القادر على ازالة الحرمان المزمن.
وحتى لا نكون اسرى الصور النمطية التي يرغب البعض هذه الايام بتعميمها فان هذه المنطقة شهدت في السنوات الماضية بجهود نواب المنطقة وبلدياتها نهضة في حدود معقولة من خلال اقرارها كمحافظة تحتاج الى المراسيم التطبيقية التي تنقلها من الورق الى الواقع، كما في توفير بعض الخدمات، من ضمنها تحسين شبكات الطرقات الرئيسية والداخلية وبعض المشاريع الصحية والتربوية ومشاريع الري والبرك الاصطناعية، يضاف اليها الكثير من المشاريع التي ترعاها مؤسسات المقاومة والمجتمع المدني على المستوى الصحي والتربوي والخدمات المختلفة، منها مراكز الارشاد الزراعي، وابرز ما يجري تنفيذه حالياً هو اوتوستراد بعلبك ـ البزالية الذي تنفذه الهيئة الايرانية للمساهمة باعادة اعمار لبنان، والذي يؤمل استكماله حتى بلدة القاع.
وفي الموسم الانتخابي الذي يحضر الى هذه المنطقة على وقع الأحداث الامنية التي شهدتها، فان اقل ما يمكن أن تطالب به بعلبك الهرمل هو ان تأتيها الدولة يوماً بالانماء الحقيقي بنفس الإيقاع الذي تحضر إليها بالأمن، وأن يجد هذا الانماء حاضنته الوطنية الواسعة كما هو الحال في القضايا الطارئة.
ان بعلبك الهرمل هي جزء من هذا الوطن الكبير، كان أبناؤها السباقين الى المشاركة بصون سيادته وحدوده، وبناء مستقبله، وهي في الواقع ليست هاربة من الدولة كما يحلو للبعض أن يصورها، بل الدولة هي الهاربة منها، والتي يجب أن تعود اليها عبر جسر وحيد هو الانماء الحقيقي الذي ينهض بالمنطقة وبأبنائها.
الانتقاد/ العدد1343 ـ 24 نيسان/أبريل 2009