ارشيف من :آراء وتحليلات
القضاء: حكاية العدالة المنقوصة التي صارت محاصرة بالاتهامات..

كتب ابراهيم صالح
كان لافتاً ومعبراً ما قاله البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير عند مغادرته اخيراً الى الاردن بأن "القضاء جيد، ولكن يجب تخليصه من الفساد".
فقرار الافراج الذي اصدرته المحكمة الدولية عن الضباط الاربعة بعد اعتقال استمر نحو ثلاث سنوات وثمانية اشهر، وضع هذا القضاء في قفص الاتهام مجدداً، وفتح الباب على مصراعيه للمطالبين بإخضاعه للمحاسبة عن "جرم" ارتكب ظلماً بحق أربعة من كبار المسؤولين الامنيين في البلاد، اعتقلوا لـ44 شهراً من دون ان توجه اليهم تهمة واضحة ومحددة، ومن دون ان يصدر بحقهم اي قرار ظني، ومن دون ان ينظر هذا القضاء بعشرات طلبات الافراج عنهم التي قدمت اليه.
انه "جرم" حقيقي اقترفته السلطة التي يلجأ اليها الناس عادة، لإحقاق الحق وانصاف المظلومين ورفع الحيف.
القضية من ألفها الى يائها، فتحت الاعين مجدداً وبوضوح على معضلة كبرى في لبنان عنوانها العريض "القضاء غير المستقل"، واستطراداً القضاء المسيس، وبوضوح اكثر القضاء الذي يقبض ويخالف ابسط القواعد والمعايير التي يتعين ان يتحلى بها القضاء وهي الاستقلالية التامة عن باقي السلطتين الاخريين، التشريعية والتنفيذية.
ليست المرة الاولى التي "يفسد" فيها القضاء في لبنان، وتظهر عليه بيّنة آثار وعلائم هذا الفساد. فمنذ أعوام وللمرة الاولى في تاريخ القضاء، يرفع فيه القضاة في لبنان اصواتهم في احتجاج صارخ من انتهاك السياسيين لحصانتهم التي يتعين ان يتمتعوا بها تلقائياً، بموجب كل القوانين والانظمة والاعراف، اصدروا حينها بيانهم الشهير، الذي عده الاعلام اللبناني حينها "انتفاضة القضاء" ضد تدخل السياسيين.
لكن هذه "الانتفاضة" الشهيرة على اهميتها ووجاهتها، لم تكن بمثابة محطة او جرس انذار لكي توبخ ضمير السياسيين او توجع وجدانهم وتجعلهم "يحررون" هذا القضاء من سطوتهم، وتعيد الاستقلالية لسيف القضاء الذي تحمله بالعادة يد عمياء غايتها الانصاف واقامة القسط، واعادة الحق الى اهله.
وكثيرة هي المرات التي اقيل فيها في لبنان قضاة كبار وصغار، في حفلات التطهير الاداري والقضائي التي كانت تباشرها بعض العهود، وكثيراً ما كان القضاء يصاب بلوثة الانقسامات السياسية في البلاد ويبادر عهد ما الى الامساك بزمامه عبر الامساك بالنيابة العامة التمييزية والنيابات الاخرى. ولكن اكثر صور "الانتهاك" واكثر مظاهر الهيمنة على الجسم القضائي كانت في عهد حكومتي السنيورة الاولى والثانية، اذ بلغ استخدام القضاء الواقف لأغراض سياسية معروفة اقصى مداه، لدرجة انه على سبيل المثال وليس الحصر تبلغ الضباط الاربعة الذين حرروا اخيراً اكثر من مرة عبر وسطاء مباشرين وغير مباشرين من بعض القضاة الذين يتولون ملفاتهم وفي مقدمهم المدعي العام التمييزي سعيد ميرزا أنهم ليس بمقدورهم الافراج عنهم (اي عن الضباط) لأن رؤوسهم قد تطير.
ومما لا شك فيه ان البيانات والمذكرات التي دبّجها بعض هؤلاء الضباط وهم وراء القضبان بحق القضاء الذي يقبض على ملفاتهم ويحول دون اطلاقهم ولا سيما ميرزا، قد جعلت هؤلاء القضاة، في وضع لا يحسدون عليه، وجعلت القضاء من رأسه حتى أخمص قدميه محاصرا بالشبهات والاتهامات لا سيما وهو عاجز عن الرد على هذه المذكرات والبيانات، وقاصر عن تقديم ردود مقنعة، ومعللة قانونياً، طوال الاعوام الثلاثة الماضية، وبالتحديد بعد نحو ستة اشهر على اعتقال الضباط الاربعة، فقد القضاء اللبناني آخر مظاهر هيبته واستقلاليته ونزاهته، وكلما تقادم اعتقال هؤلاء الضباط، ازداد وضع القضاء حراجة، وتظللت صورته بالسواد.
ولم يعد خافياً ان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، ابلغ احد الصحافيين بصراحة، انه نصح حلفاءه في فريق 14 شباط منذ اشهر عدة وفي مقدمهم النائب سعد الحريري بضرورة العمل لاطلاق سريع للضباط الاربعة، لأن اطلاقهم عاجلاً من شأنه ان يحصن القضاء من مزيد من الهزات والارتدادات، ولأنه كلما طال اعتقالهم سيكون ذا مردود سلبي على الفريق الشباطي. والثابت ان جنبلاط الذي كان على يقين من ان الافراج عن الضباط الاربعة حاصل لا محالة، وهو الادرى بكيفية "فبركة" شهود الزور وعلى يد من المقربين منه، تم الامر وأعد "السيناريو" كاملاً في ليل، واستطراداً من لعب دور "راجح" في المسرحية كلها، واطلق الكذبة وجعلها اساساً لرؤية الافك والتزوير.
وعليه، لم يكن مستغرباً ان يصير موقع القضاء برمته صعباً للغاية من اللحظة الاولى التي اطلق فيها الضباط الاربعة، وان ترتفع عن حق مطالب محاسبة من "خطط ومن نفذ" ومن رفض تكراراً طلبات الافراج عنهم، وعليه ايضا، لم يكن غريبا ان يتوارى المدعي العام التمييزي سعيد ميرزا منذ اسابيع عدة، ويفاجأ الكثيرون بسفره الى خارج البلاد، في عملية "فرار" منظمة من وجه عاصفة الاحتجاجات التلقائية التي عصفت بالبلاد بعدما بادر القضاء الدولي الى اطلاق الضباط الاربعة ولم يمض على تسلمه ملفاتهم اكثر من شهرين اثنين. انها بحق "فضيحة العصر" او بمعنى آخر انه السقوط المريع لجسم كان من سماته انه ملاذ المظلوم ومأوى اصحاب الضيم.
والاكيد ان كل الدفاعات الهشة من رموز 14 شباط عن هذا القضاء، والثابت ايضاً ان بيان مجلس القضاء الاعلى الحافل بالتعابير الانشائية الغامضة والتي لا تشكل دفاعاً متيناً يمكن ان يبرر "غلطة" مقصودة بمستوى اعتقال اربعة من كبار المسؤولين الامنيين في البلاد، اتضح لاحقاً بما لا يدع مجالاً للشك ان ثمة اعتقالا تعسفيا بامتياز، أراده الذين خططوا له، واستغلوا سلطتهم وقبضهم على السلطة في غفلة من الزمن ليبنوا "عمارة" من الاكاذيب والترهات.
والمؤسف ان الذين لم يجدوا شعاراً يرفعونه ويجعلونه قضيتهم الاساسية، غير شعار المطالبة بالعدالة كانوا اول من دق إسفيناً في جسد الدولة عندما أصروا على "امتطاء" القضاء وجعله جسراً ومعبراً لانتهاكاتهم وآثامهم السياسية طوال الاعوام الاربعة الماضية.
وبمعنى آخر، جعلوا القضاء مشجباً لما ارتكبوه بحق البلاد والعباد.
ولم يعد جديداً القول ان اول هدف باتت مكونات المعارضة تضعه في اولوياتها، وهي تسعى لنيل الاكثرية النيابية، هو اعادة الاعتبار للقضاء عبر تنزيهه وتحريره من كل من اساء اليه وجعله مطيته، سواء من داخل الجسم القضائي او من صف سياسيي 14 شباط.
ومما لا شك فيه ان الخطوة الاولى في الرحلة الى بناء الدولة القادرة العادلة التي شرعت بها المعارضة، هي اعادة العدالة الى وضعها الطبيعي.
الانتقاد/ العدد 1345 ـ 8 أيار/ مايو 2009
كان لافتاً ومعبراً ما قاله البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير عند مغادرته اخيراً الى الاردن بأن "القضاء جيد، ولكن يجب تخليصه من الفساد".
فقرار الافراج الذي اصدرته المحكمة الدولية عن الضباط الاربعة بعد اعتقال استمر نحو ثلاث سنوات وثمانية اشهر، وضع هذا القضاء في قفص الاتهام مجدداً، وفتح الباب على مصراعيه للمطالبين بإخضاعه للمحاسبة عن "جرم" ارتكب ظلماً بحق أربعة من كبار المسؤولين الامنيين في البلاد، اعتقلوا لـ44 شهراً من دون ان توجه اليهم تهمة واضحة ومحددة، ومن دون ان يصدر بحقهم اي قرار ظني، ومن دون ان ينظر هذا القضاء بعشرات طلبات الافراج عنهم التي قدمت اليه.
انه "جرم" حقيقي اقترفته السلطة التي يلجأ اليها الناس عادة، لإحقاق الحق وانصاف المظلومين ورفع الحيف.
القضية من ألفها الى يائها، فتحت الاعين مجدداً وبوضوح على معضلة كبرى في لبنان عنوانها العريض "القضاء غير المستقل"، واستطراداً القضاء المسيس، وبوضوح اكثر القضاء الذي يقبض ويخالف ابسط القواعد والمعايير التي يتعين ان يتحلى بها القضاء وهي الاستقلالية التامة عن باقي السلطتين الاخريين، التشريعية والتنفيذية.
ليست المرة الاولى التي "يفسد" فيها القضاء في لبنان، وتظهر عليه بيّنة آثار وعلائم هذا الفساد. فمنذ أعوام وللمرة الاولى في تاريخ القضاء، يرفع فيه القضاة في لبنان اصواتهم في احتجاج صارخ من انتهاك السياسيين لحصانتهم التي يتعين ان يتمتعوا بها تلقائياً، بموجب كل القوانين والانظمة والاعراف، اصدروا حينها بيانهم الشهير، الذي عده الاعلام اللبناني حينها "انتفاضة القضاء" ضد تدخل السياسيين.
لكن هذه "الانتفاضة" الشهيرة على اهميتها ووجاهتها، لم تكن بمثابة محطة او جرس انذار لكي توبخ ضمير السياسيين او توجع وجدانهم وتجعلهم "يحررون" هذا القضاء من سطوتهم، وتعيد الاستقلالية لسيف القضاء الذي تحمله بالعادة يد عمياء غايتها الانصاف واقامة القسط، واعادة الحق الى اهله.
وكثيرة هي المرات التي اقيل فيها في لبنان قضاة كبار وصغار، في حفلات التطهير الاداري والقضائي التي كانت تباشرها بعض العهود، وكثيراً ما كان القضاء يصاب بلوثة الانقسامات السياسية في البلاد ويبادر عهد ما الى الامساك بزمامه عبر الامساك بالنيابة العامة التمييزية والنيابات الاخرى. ولكن اكثر صور "الانتهاك" واكثر مظاهر الهيمنة على الجسم القضائي كانت في عهد حكومتي السنيورة الاولى والثانية، اذ بلغ استخدام القضاء الواقف لأغراض سياسية معروفة اقصى مداه، لدرجة انه على سبيل المثال وليس الحصر تبلغ الضباط الاربعة الذين حرروا اخيراً اكثر من مرة عبر وسطاء مباشرين وغير مباشرين من بعض القضاة الذين يتولون ملفاتهم وفي مقدمهم المدعي العام التمييزي سعيد ميرزا أنهم ليس بمقدورهم الافراج عنهم (اي عن الضباط) لأن رؤوسهم قد تطير.
ومما لا شك فيه ان البيانات والمذكرات التي دبّجها بعض هؤلاء الضباط وهم وراء القضبان بحق القضاء الذي يقبض على ملفاتهم ويحول دون اطلاقهم ولا سيما ميرزا، قد جعلت هؤلاء القضاة، في وضع لا يحسدون عليه، وجعلت القضاء من رأسه حتى أخمص قدميه محاصرا بالشبهات والاتهامات لا سيما وهو عاجز عن الرد على هذه المذكرات والبيانات، وقاصر عن تقديم ردود مقنعة، ومعللة قانونياً، طوال الاعوام الثلاثة الماضية، وبالتحديد بعد نحو ستة اشهر على اعتقال الضباط الاربعة، فقد القضاء اللبناني آخر مظاهر هيبته واستقلاليته ونزاهته، وكلما تقادم اعتقال هؤلاء الضباط، ازداد وضع القضاء حراجة، وتظللت صورته بالسواد.
ولم يعد خافياً ان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، ابلغ احد الصحافيين بصراحة، انه نصح حلفاءه في فريق 14 شباط منذ اشهر عدة وفي مقدمهم النائب سعد الحريري بضرورة العمل لاطلاق سريع للضباط الاربعة، لأن اطلاقهم عاجلاً من شأنه ان يحصن القضاء من مزيد من الهزات والارتدادات، ولأنه كلما طال اعتقالهم سيكون ذا مردود سلبي على الفريق الشباطي. والثابت ان جنبلاط الذي كان على يقين من ان الافراج عن الضباط الاربعة حاصل لا محالة، وهو الادرى بكيفية "فبركة" شهود الزور وعلى يد من المقربين منه، تم الامر وأعد "السيناريو" كاملاً في ليل، واستطراداً من لعب دور "راجح" في المسرحية كلها، واطلق الكذبة وجعلها اساساً لرؤية الافك والتزوير.
وعليه، لم يكن مستغرباً ان يصير موقع القضاء برمته صعباً للغاية من اللحظة الاولى التي اطلق فيها الضباط الاربعة، وان ترتفع عن حق مطالب محاسبة من "خطط ومن نفذ" ومن رفض تكراراً طلبات الافراج عنهم، وعليه ايضا، لم يكن غريبا ان يتوارى المدعي العام التمييزي سعيد ميرزا منذ اسابيع عدة، ويفاجأ الكثيرون بسفره الى خارج البلاد، في عملية "فرار" منظمة من وجه عاصفة الاحتجاجات التلقائية التي عصفت بالبلاد بعدما بادر القضاء الدولي الى اطلاق الضباط الاربعة ولم يمض على تسلمه ملفاتهم اكثر من شهرين اثنين. انها بحق "فضيحة العصر" او بمعنى آخر انه السقوط المريع لجسم كان من سماته انه ملاذ المظلوم ومأوى اصحاب الضيم.
والاكيد ان كل الدفاعات الهشة من رموز 14 شباط عن هذا القضاء، والثابت ايضاً ان بيان مجلس القضاء الاعلى الحافل بالتعابير الانشائية الغامضة والتي لا تشكل دفاعاً متيناً يمكن ان يبرر "غلطة" مقصودة بمستوى اعتقال اربعة من كبار المسؤولين الامنيين في البلاد، اتضح لاحقاً بما لا يدع مجالاً للشك ان ثمة اعتقالا تعسفيا بامتياز، أراده الذين خططوا له، واستغلوا سلطتهم وقبضهم على السلطة في غفلة من الزمن ليبنوا "عمارة" من الاكاذيب والترهات.
والمؤسف ان الذين لم يجدوا شعاراً يرفعونه ويجعلونه قضيتهم الاساسية، غير شعار المطالبة بالعدالة كانوا اول من دق إسفيناً في جسد الدولة عندما أصروا على "امتطاء" القضاء وجعله جسراً ومعبراً لانتهاكاتهم وآثامهم السياسية طوال الاعوام الاربعة الماضية.
وبمعنى آخر، جعلوا القضاء مشجباً لما ارتكبوه بحق البلاد والعباد.
ولم يعد جديداً القول ان اول هدف باتت مكونات المعارضة تضعه في اولوياتها، وهي تسعى لنيل الاكثرية النيابية، هو اعادة الاعتبار للقضاء عبر تنزيهه وتحريره من كل من اساء اليه وجعله مطيته، سواء من داخل الجسم القضائي او من صف سياسيي 14 شباط.
ومما لا شك فيه ان الخطوة الاولى في الرحلة الى بناء الدولة القادرة العادلة التي شرعت بها المعارضة، هي اعادة العدالة الى وضعها الطبيعي.
الانتقاد/ العدد 1345 ـ 8 أيار/ مايو 2009