ارشيف من :آراء وتحليلات

بقلم الرصاص: الفرح الثالث

بقلم الرصاص: الفرح الثالث
كتب نصري الصايغ
1 ـ فرح لا يحتمل
يلزمني قوة لا أمتلكها لاحتمال الأفراح الباهظة، أنفقت بطاقتي في احتمال النكبات والهزائم، كتبت بدموعي ابتساماتي وما تبقى في خابية الروح من عافية.
لا طاقة لي على مكابدة الانتصار،
ظننت أنني سأعايش السقوط، هندست أيامي لاجتراح الصبر، تفاءلت بقصر العمر نجاةً في مذلة القهر والظلم والاستبداد.
كدت أقتنع بأن نبوءة "اسرائيل" هي دين السنوات العربية العجاف، وأن فلسطين قالت للناس وداعاً وارتحلت في معراج لا يصل.
لا طاقة لي على الفرح المثلث، عتّقت روحي في خوابي البؤس العربي.. قلت: اعتزل التفاؤل والأمل، واعمل على توضيب يأسك بأقل اكتئاب.
من أنقذني من وهدة السقوط؟
فرح واحد يكفيني، قلت في أيار الألفين: "عشت وشفت"، وقلت في تموز الألفين وستة: "سنعيش ونشوف أكثر".. وما ظننت أن الفرح الثالث سيداهمني في ما قبل خاتمة العقد.
ها أنذا أعلن أنني طلقت اليأس وهجرت النكسة وحذفت النكبة وصرت مراهقاً صغيراً يتدرب على الرقص في الساحات، ابتهاجاً بنصر وحرية وتحرير وأسرى كرايات البشارة.
2 ـ هذا هو ولدي
قل يا أمي، جئت لأفك أسرك من الانتظار، عدت لأولد من صدرك، ها أنذا هدية صبرك المديد، منديل عينيك السماويتين.
قل يا أمي، حوّلي مجرى الدموع، فلتكن عيناك منذورتين للفرح، ولتبتسم جبهتك لإطلالة ابنك، ولتصدح الأغاني في سمعك عندما صباح الخير يناديك، ومساء الخير يلمس وسادتك.
يا أم الصبر والحنان، كم كنت شاهقة، عوّضت عني يا حياتي في ذاكرتك، عشت مع ظلي.. بعد اليوم لا ظل لي. ها أنذا بين يديك، مريني أطع، قولي لي، كن المستحيل، وسأفعل ما تريدين، إذ لا مستحيل يتفوق عليك.
كنتِ المستحيل من الأول، وما يئست.
كنتِ الأمومة بلا سمير، وما كنت  غير أمي.
انتهى وقت الدموع، فلتشرق شمسك عليّ.. فلسطين التي عرفتها أسيراً فقط، عوضت عنها بفلسطين اللقاء.. ذراعاك زيتون البساتين، صوتك قدس المآذن والأجراس، صلواتك بدء لا يتوقف.
أنا سمير يا أمي، يا امرأة الثلاثين جلجلة، لقد أنزلني السيد عن صليبي، أزاح الحجر وقهر الاحتلال وأعادني اليك.
منكِ وبك سأعود إلى الوطن، فافتحي ذراعيك واهتفي: ها هو ابني الحبيب، فبه افرحوا.
"حيّ على .."
"الرضوان" في سمائه يغفو على رضا، ارتاح دمه اذ رأى أولاده وأصدقاءه وحوارييه يعودون به اليه.
كلهم ينتمون إلى اسمه: الرضوان، فمبارك أيها الرجل الذي يده أعلى من البيارق، وساعداه أرفع من أعمدة السماء، وإطلالته من سحابة بعيدة على شكل فلسطين.
الرضوان، عماد مغنية، كان أول المستقبلين.
عنوان العودة هو، طريق العودة كان، الوصول إلى بيروت يمر من تحت بندقيته.
كأنه ما زال المقيم في المجهول، في الخطوط الخلفية، كاللغز ينمو، كالسر يتفتح، كالفرح يستهل النهار ويستلّ الانتصار.
كأنه على عادته، يترك المقدمة ويعيش في أجساد الآخرين، في أرواح الآخرين، في عيون الآخرين، فما أكبر عائلتك يا حاج عماد! ما أبلغ ابتعادك! ما أقرب استشهادك! كأنك في مقام الزناد لا تبارحه، لا تتركه، إذ "حيّ على القتال"، بدء الصلاة وشرط الإيمان.
أحياناً أجلس وحدي وأسأل نفسي عنك.
يأتيني الجواب: ألف عماد.. خلف ألف عماد.
أترقب مسيرتهم في السر، أراهم خلفك، فما أعظم شهادتك وما أثرى دمك وما أفصح جرحك! "حيّ على الانتصار".. انتصاران منك في حضورك، في الألفين والألفين وستة، وانتصار منك بعدك..
فماذا بعد؟
"حيّ على التحرير والحرية".
الانتقاد/ العدد 1282 ـ 18 تموز/يوليو 2008
2008-07-18