ارشيف من :أخبار لبنانية
الواقع الاقتصادي في لبنان إلى أين؟

"الخليج " - رئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص
قيل إن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم حالياً لم تطل لبنان . هذا غير صحيح . ليس في العالم بلد لم يتأثر بهذه الأزمة على وجه مباشر أو غير مباشر . وكان للأزمة العالمية فعلها السلبي كما كان لها ارتدادها الإيجابي على لبنان .
كان من تداعيات الأزمة على لبنان ما انعكس من آثارها على العمالة اللبنانية في الخليج العربي، الذي يستضيف عدداً لا يستهان به من اللبنانيين . فلقد كان للأزمة العالمية على منطقة الخليج العربي ما انعكس سلباً على إقبال المنطقة على استخدام اللبنانيين، فإذا بأعداد من العاملين هناك يعودون إلى ديارهم وإذ بتدفق المتوجهين للعمل هناك يتراجع على نحو ملموس . وكان للأزمة العالمية أثر سلبي محسوس أيضاً في حركة التبادل التجاري مع منطقة الخليج كما مع سائر البلدان التي تستوعب صادرات لبنان من المنتجات الزراعية والصناعية . كما تأثرت سلباً بعض الشيء حركة السياحة الوافدة إلى لبنان .
أما الحركة المالية، والتي تشمل ما يفد على لبنان من إيداعات مصرفية واستثمارات، ولا سيما العقارية منها، فيلاحظ أنها استمرت في تصاعدها . ويُعزى السبب إلى أن فائض السيولة بين أيدي المواطنين والمؤسسات في منطقة الخليج بقي متوافراً، وبخاصة في البلدان المنتجة للنفط . ثم إن الأسواق المالية التي كانت في الحالات الطبيعية تستقطب معظم المدخرات الخليجية المصدرة، ومنها نيويورك ولندن وفرانكفورت وجنيف وخلافها، أضحت كلها في مهب العاصفة الاقتصادية العالمية، فانصرف عنها سيل المدخرات العربية وتوجه بعضه صوب لبنان . وقد تمكن لبنان من قطف ثمار هذه السانحة والحفاظ على جاذبيته بفضل الصمود اللافت لقطاعه المصرفي الذي لم يصبه سوء ملحوظ من تداعيات الأزمة العالمية . وكان للسياسة الحصيفة التي سلكها مصرف لبنان المركزي فضل في ذلك . هكذا بقيت المصارف العاملة في لبنان موئلاً للإيداعات العربية، فسجل مجموع الودائع المصرفية زيادة محسوسة خلال الأشهر الأولى من العام 2009 . كان هذا هو المردود الإيجابي للأزمة العالمية على لبنان .
تعرض لبنان غير مرة لأزمات اقتصادية، ترافقت عموماً مع أزمات سياسية كان مسرحاً لها . كان منها اضطرابات العام ،1958 وكذلك الأزمة السياسية الأمنية التي امتدت عبر خمسة عشر عاماً ما بين 1975 و1990 . وكانت الاعتداءات “الإسرائيلية” المتكررة على لبنان سبباً لتأزم الأوضاع العامة ومن ثم الاقتصادية . وكان آخر تلك الاعتداءات الغاشمة عام 2006 .
إلى كل حالات التأزم العارض هذه، هناك مشكلة مقيمة تلازم لبنان منذ ولادته، هي التي تجوز تسميتها بالأزمة البنيوية . إنها تتجلى رقمياً بالعجز الدائم في الميزان التجاري، ولو أنه ينقلب بوجه عام فائضاً في ميزان المدفوعات بفعل ما يرد من عائدات السياحة وسائر الخدمات التي يسديها اللبنانيون داخل بلدهم وخارجه، كما بفعل تحويلات المغتربين اللبنانيين إلى عائلاتهم في لبنان وحركة الاستثمار المالي الإيجابية عموماً وبخاصة في الميدان العقاري، وكذلك حركة الإيداع الخارجي في المصارف العاملة في لبنان .
إن الفائض المالي، المستمر حتى أحياناً في فترات التأزم السياسي والأمني، هو الذي حفظ لهذا البلد قدرته على تجاوز أزمات ومحن من دون أن يكون لها وقع بالغ على حيويته الاقتصادية . وقد لعب النظام المصرفي اللبناني دوراً مرموقاً في هذا السياق . وكانت الثمرة استقراراً لافتاً في القيمة الخارجية للعملة اللبنانية، والذي كان له بدوره مردود إيجابي على صورة لبنان الاقتصادية عموماً، داخلياً وخارجياً . هذا مع ملاحظة أن استقرار العملة في لبنان كان ولا يزال يُقرأ بالقياس إلى العملة الاحتياطية الأولى في العالم، وهي الدولار الأمريكي . إلا أن هذه الظاهرة التبست في الآونة الأخيرة، منذ نشوب الأزمة الاقتصادية العالمية، إذ بقيت الليرة مرتبطة بالدولار، فيما الدولار أضحى عرضة لتقلبات متفاوتة تجاه سائر العملات العالمية من مثل اليورو الأوروبي والين الياباني والعملة الصينية .
مشكلة لبنان المزمنة تتمثل بعجز مقيم في ميزانه التجاري، وبعدم قدرة اقتصاده الوطني على استيعاب كل قواه العاملة وبالتالي تنامي حركة هجرة الشباب اللبناني إلى الخارج، وتفاوت ملحوظ في معدل نمو المناطق اللبنانية المختلفة وتركّز الشطر الأعظم من النشاط الاقتصادي على العاصمة وجوارها، وبالتالي التفاوت الملحوظ في مستوى الدخل الفردي في شتى أرجاء الوطن الواحد . هذه الظاهرة المتشعبة جعلت الاقتصاد اللبناني إلى حدٍ بعيد منكشفاً على تداعيات الأحداث والتقلبات الوافدة من الخارج ولا سيما الإقليمية منها . إن مشكلة لبنان هذه هي مشكلة بنيوية أساساً، بعبارة أخرى فإن لبنان في مساحته كما في عدد سكانه، بلد صغير حجماً، سوقه الداخلية ضيقة لا تفي بموجبات التنمية المستدامة بوتيرة عالية، لذا لامندوحة له عن الترابط الوثيق اقتصادياً مع الجوار العربي .
هذا يعني أن لبنان في المدى الطويل، لا يستطيع الرهان على استقرار اقتصادي مقيم، أو على اكتساب منعة اقتصادية وطيدة إزاء هبّات التقلبات التي قد يتعرض لها من الخارج، أو على الفوز بنمط نمو اقتصادي ثابت في إنتاجه القومي وبالتالي في مستوى حياة أبنائه، إلا عبر الانخراط في مشروع تكاملي ما مع الجوار العربي، كأن يكون مكوناً من مكونات اتحاد اقتصادي عربي .
ولنا أسوة في هذا الصدد ببلدان أوروبا . ما كانت فرنسا أو ألمانيا أو أيطاليا أو غيرها من دول أوروبا لتحقق ما حققت من نمو ومنعة لولا انضواؤها في الاتحاد الأوروبي، علماً بأن هذا الاتحاد أضحى يضم اليوم 27 كياناً أوروبياً، منها 16 دولة هي أعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي وتعتمد عملة موحدة هي اليورو . لبنان له مصلحة حيوية في أن يكون عضواً في اتحاد اقتصادي عربي . وبالتالي يترتب عليه أن يقوم بدور الريادة في تحقيق مثل هذا الاتحاد . وإن قام اتحاد اقتصادي عربي فاعل، فمن المفترض أن يحتل لبنان مقام المحور فيه . إن بيروت مؤهلة لأن تكون عاصمة الاتحاد العربي كما بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي .