ارشيف من :أخبار عالمية
خا ص "الانتقاد.نت" : موتي .. وبعض الأحياء
"الانتقاد.نت" - الشاعر عمر فارس أبو شاويش
في غمرة الوقت وعبر سمفونيّة الطريق الساحلي .. بين حداثة الطرق وانبعاث الخوف في صدر الطمأنينة .. تتراقصُ أسئلتي وتنضج الإجابات تلامس طباشير بيضاء .. تحتاج لسبورة بعمر حزني الطويل .. ترافقني غيمة تشدو رهف العصافير لتطرب مسمعي الهادئ .. تستقلني راحة من ضجيج .. فأحتار الوقوف على
النافذة لأنظر كيف تلتقط العصافير حبّها .. دون أن تأخذ من الآخرين طعامهم، أو حتى انحناء الأغصان القاتمة لتقتات من المياه الجارية ما يكفيها لعبور شريانها في متاع الخلود .
هناك فرق بين أن تغادر غزة مسافراً وبين أن تعود إليها مشتاقاً .. فالمشاهد تتكرر حيث لا يمكننا أن نفرق بين شتائم السفر وإهانة العودة .. تدخل نفس الصالة ونفس المكان .. ضابط يحاول أن يرفع حقيبتك بينما عينه تتجه نحو مخبأ نقودك الخاص ، علّك تقدّر عدد النجوم والنسور التي على كتفه .. والتي لو خاضت حرباً لعاد العدو خائباً يجرّ هزيمته .
نفس الأرض والسماء .. المقاعد ذاتها فقط لا يفرق بين الحالتين بالسفر والعودة سوى قشر البرتقال أو صناديق الخبز والمكسرات .. تسمع من على يمينك أنين عجوز أرهقها غباء الضجيج وحواديت النساء .. تنظر إلى يسارك وبالكاد تستوعب كيف ينام عشرين شاباً فوق بعضهم البعض .. أسفلهم قطعة قماش .. وفوقهم هموم القمّة العربيّة التي عقدت أصلاً للبحث لهؤلاء الشباب عن حلول .. تجعلهم يستبدلون قطعة القماش ببعض الأحذية القريبة من المكان .. ففي كلّ قمة تكثر التعبيرات والوعودات وتتمزق الأقمشة .. فقد اعتادوا على تعريتنا من حقوقنا .. بحقنة يدوية أو عبر الفيديو كونفرنس .
أُرسم أيها الفنان .. أنثر على لوحتك المُثلى أجساد الشوارع التي مزقتها صواريخ الطائرات المجنونة .. دقق في تقديراتك الفنيّة فلا تنسى أن تعبر شارع الوحدة قبل الوصول إلى شارع النصر .. علهم يسلكون الطرق التي رسمت .. أو علّهم يبحثون في لوحتك عن أماكنهم التي اعتادوا أن ينقسموا عليها .. بعض الكراسي والدمى الخشبيّة .
أرسم .. وعلّم الأجيال كيف تربي ضوء الشمس على ساعد القمح الأسود .. وطاحونة النكبة التي مضى من عمرها واحد وستين عاماً دون أن ينال الفقراء قمحهم .. تبتلّ نظرات العيون بماء الشوق .. فلكلّ واحد منّا عشقه الخاص للوطن .. وحكايته مع الشهداء .
ممرٌ مظلم ضيّق .. من حولك لوحات زجاجية لا ترى بها إلا نفسك وأربعة من الجنود يرافقونك وأحدهم يضع يده على كتفك .. أصوات صاخبة يرافقها بعض الجمل العبرية الغير مفهومة على الإطلاق .. يبدأ أحدهم بالتحدث إليك وهو يشير بإصبعه السبابة نحو غرفة جانبية أكثر ظلماً وضيقاً .. " هيّا .. استعد للتصوير ولا تنسَ أن تقلع ملابسك الخارجيّة " .. يقول لك أحد الجنود وهو يرتدي ملابس مدنيّة لا علاقة لها بالجيش .. يخاطبك بالعربيّة لتشعر وكأنما تعيش في مستنقع اللغات الإستخباراتيّة .. هم مستعدون لتعلم أيّ شيء مقابل أن يبقى احتلالهم الذي يعتقدونه وطنهم الأعظم .. بينما البعض منا يتفنن تقليد الغرب حتى بعبثية الأفكار وجهل الحياة .
تأتي مجندة لا تكاد ترتدي شيئاً سوى ما يدلّ على يهوديتها .. تطلب منكَ أن تقف باتجاه اليمين .. ثمّ باتجاه اليسار .. ثم إلى الأمام والخلف .. يصاحبها التقاط سرّي لصورة تذكارية لك تبقى لديهم كلما احتاجوك على أحد الحواجز أو في إحدى المعابر .. تأخذ بعدها ما تمتلك من نقود واحتياجات السفر من كاميرات ومذكرات وتغادر .
يسحبك أحد الجنود وهو يمسك بيدك اليمنى إلى غرفة أخرى ويبدأ بالترحيب بك في بلدهم مثلما نفعل تماماً عندما يأتي زائر إلى بيتنا .. تجلس وأمامك ضابط كبير يحيط به مكتب فاخر وبعض الأجهزة الإلكترونيّة .. يميلُ وجهه نحو خارطة للدولة العبرية .. وظهره لكَ تماماً ليجعلك تتفحص كآبة التحقيق والانغماس النفسي مع الذات .. يقفزُ فجأة من على كرسيه ويبدأ بمخاطبتك .. يناديك باسمك كاملاً ويصف لكَ مكان سكناك ويضع يدهُ في يدك مصافحاً وبشدّة .. يشعرك أنّك صديقه أو كنت تقضي إجازتك برفقته في إحدى مدن أوروبا الجميلة .. يضع يده على كتفك الأيسر .. يسألك بحنكة " لمَ تقفُ هكذا تفضّل تفضّل " ..
تبدأ بالتمعن مجدداً بهذا المكان الأنيق .. لشدّة أناقته لا ترى سوى كَراسٍ من الكهرباء ولوحات إلكترونيّة تشير لحرب قادمة أقرب من يوم ميلادنا القادم .. يدخل فجأة خمسة من الجنود الذين لا ترى لهم طولاً من عرضاً .. ترفع رأسكَ للأعلى للنظر إلى أحدهم فيسارع الآخر بضربك .. تنظر إليه فيكشّر بعينه ويهزّ لك برأسه " أنظر إلى الأمام " .
وتبدأ رحلة البحث عن معلوماتهم داخل مستنقعك الوطني .. يسألك الضابط " المحقق " .. وإن أجبتَ بما يروق لهم ويريحهم أو لم تجب .. تنال قسطاً من الضرب على ظهرك وكتفيك ممن يقفون خلفك .. تضحك للحظة وتخاطب نفسكَ سرّاً " مجانين .. يظنون أنهم سوف يهزمون فلسطينيتي " .. يواصلون الضرب وأنتَ تواصل الصراخ والضحك في آنٍ واحدْ .
واصلوا الأسئلة .. وتواصل الصمود فلا يغرّك إن وضعوك على كرسيّ من الكهرباء أو نبشوا أظافرك بإحدى الماكينات الحديدية .. يمرغون شعرك ووجهك وأنفك .. يمزقون ما تمتلك من مذكرات طفوليّة أمام عينيك وكأنما يمزقون شرايين قلبك وأحلامك الوردية .. يضربونك في كلّ أنحاء جسدك .. وتبتسم لا فرق .. فقد أخرج شهيداً وتحملني الملائكة على صدر الروح وتكابير الأوفياء .. وقدّ أدخل في نفق أكثر ظلمّا .. سجّان ما بين القضبان والمحن .. لأنقش اسمي أسيراً في السجن وعلى الجدران .
تتشابه النكبات والسجون والأيام والبنادق والأسواق والشوارع والمآذن .. تجزم أنّك تصلّي صلواتك وتحاول احتساء مرارة الليل ببعض القصائد .. تدخنُ أعصابك وتلقي بآخرها في المنفضة .. المقبرة لوحتك التي رسمت بها صورة من رحلوا .. وتستعد لتغمس نفس الريشة لترسم من جديد من سوف يرحلون بارتحال الغروب ..
تغنيك نفسك كعابر المدن المسائية على نغماتِ عودٍ أصابه الأجل .. تعزف موسيقاك فتطرب الأحياء بانتظار موتهم .. فتتابع عن كثب كيف يحملون الشهداء .. وكيف يؤدي المقاتل التحيّة الأبديّة .. أم صراع الغياب والوجود .
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018