ارشيف من :آراء وتحليلات

على العهد: مشكاة النور..

على العهد: مشكاة النور..
كتب إبراهبم الموسوي
بالأمس، عادت أجساد شهدائنا إلى ثرى الوطن، إلى التراب الذي رصّعوه بدرِّ دمائهم وبذل عطائهم، هؤلاء الذين سكنوا وجداننا وأسكنونا في مقر الكرامة وعلياء الشرف، ثريات هم وآيات في التضحية والوفاء.
عادوا إلى أرضهم وهم ما غادروها قط، ما فتئت أرواحهم تهيم منذ لحظة استشهادهم، تهفو إلى محلها الأول ومنزلها الأجمل، تراب الوطن.
لحظة غادروا الأحبة، كانوا مسكونين بحب آخر، حب كبير، حب أسطوري لا تدركه ألباب إلا من تفتحت بصائرهم على نور معرفة الحق، فغادروا الخلق مسرعين، توّاقين إلى لقاء، إلى اتحادٍ مع ملكوت أعلى وكيان أكمل.
عندما ألقوا النظرة الأخيرة على الأماكن، ومطارح الأهل والإخوان وانطلقوا في رحلتهم الأخيرة، كان يسكنهم ذلك القلق الرائع، ذلك الشغف المتوهج للالتحاق بمن سبق، إنها لحظة الانعتاق الكامل من كل قيود المادة والتحرر من كل مقتضيات الحياة الدنيا بما فيها من تعلقات قلبية ومادية وشهوية ولذائذ حسية، إنها رحلة العروج إلى ملكوت الصفاء والنقاء.
طبعاً، ليس في هذا الكلام محاولة لرذل الدنيا أو الذمّ بها على نحو الإطلاق، إذ أنها متجر أولياء الله وقنطرة العبور إلى رضا الله سبحانه وتعالى، وما وعد به المؤمنين من نعيم مقيم، ورضوان منه أكبر، هي مزرعة الآخرة، وطريق العبور نحوها، لكن الغرض هو استشفاف حال أهل الأنس بلقاء الله، لحظة تسلو أنفسهم عن كل ما عداه، وتكون جذبة العشق الكبرى ما بين العاشق والمعشوق.
قصة الشهداء هي هي دائماً، قصة الحب التي لا تنتهي لأنها تكتب بريشة مقدّسة مدادها دماء سالت في سبيل الله، وأرواح عرجت أملاً بلحظة الوصول والوصال.
قصة الشهداء هي هي دائماً، قصة البذل والتضحية والعطاء، إنها قصة الفداء الأكبر الذي ليس فوقه فداء، لحظة يفتدي الشهيد بنفسه من يحب وما يحب، وهذه قصة أخرى أيضاً، إنها قصة المبادئ والمثل العليا التي تفتدي بدون منّة ولا شعور بالإسراف أو الهدر، على طريقة العاشق المتولّه المتأله ابن الفارض:
لم أقضِ حق هواك إن كنت الذي
لم يقض فيك أسىً ومثلي من بقي
مالي سوى روحي وباذلُ نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
عندما عانقت أرواحكم ذرى الملكوت، وتنسمت شميم العزة والكرامة في أعلى قمم المجد، أشرقت في دنيانا شموس وكواكب، وشعشعت في وطننا أعراس ومواكب، وهللت بيارق النصر تخفق في القلوب وبين الضلوع قبل أن ترتفع في الجنبات والربوع.
قافلة سماوية من ربان مركب النور، مشكاة إلهية من كواكب مضيئة عبرت سماء وجودنا فامتلأ أثير الكون بأريج معدن العظمة، وانسدلت حجب نورانية على مشهد الروعة، فاختلجت أفئدة وسكنت أرواح وعلت همم وحلّت سكينة وأنزل النصر..
بورك الوطن ومن فيه ومن حوله، بورك من ارتحل ومن ينتظر، طوبى لأمة تصنع أمجادها بدماء شهدائها لأنها تنهض على معادلة أرساها الرب.
للشهداء العز والمجد والكرامة والخلود، للأمة النصر والبركة، وللوطن الرفعة والسؤدد، إذ غدا بهم أغلى الأوطان.
الانتقاد/ العدد1283 ـ 22 تموز/ يوليو 2008
2008-07-22