ارشيف من :أخبار عالمية

هل أصبحت المحكمة الجنائية عدو الضحايا في إفريقيا والعالم العربي؟

هل أصبحت المحكمة الجنائية عدو الضحايا في إفريقيا والعالم العربي؟

باريس ـ نضال حمادة
ما يجمع دارفور والاهتمام الأميركي والغربي هو البترول فقط لا غير، إنها القصة نفسها تتكرر كلما أرادت القوى الكبرى وبالخصوص الولايات المتحدة الأميركية إخضاع بلد ما، خصوصا إذا كان بلدا عربيا وإسلاميا. هذه المرة دور السودان في مهزلة القضاء الدولي الذي لا يرى مجازر إسرائيل في فلسطين ولبنان، ويستخف بمليون قتيل عراقي سقطوا جراء الاحتلال الأميركي وبرصاصه.
"الانتقاد" تحاول إلقاء الضوء على خلفيات قرار المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير، في حوار أجرته مع احد أهم الناشطين في مجال حقوق الإنسان الدكتور هيثم مناع الناطق باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان الذي يعتبر من المدافعين الأشاوس عن المحكمة الجنائية الدولية منذ أكثر من عشرين عاما ـ ألقى كلمة المنظمات غير الحكومية المطالبة بولادة محكمة جنائية في رواندا قبل 15 سنة ـ منذ سنتين، يتعامل الدكتور هيثم مناع المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان بحذر شديد مع سياسة المدعي العام للمحكمة الجنائية الأرجنتيني لويس مورينو أكامبو.


توجهنا له بالسؤال عن طلب الأخير اعتقال الرئيس السوداني البشير؟
هل أصبحت المحكمة الجنائية عدو الضحايا في إفريقيا والعالم العربي؟- للأسف قرار كبير ومهم من هذا النوع  يعلن عنه المتحدث باسم الخارجية الأميركية سين ماكورماك قبل المدعي العام، ونحن نعرف أن الإدارة الأميركية ألد أعداء المحكمة. أي يخرج تصريح علني له طابع سياسي بما يضرب البعد الرمزي للعدالة الجنائية الدولية في هكذا ملف. من الناحية القضائية، تجربة المدعي العام موضوع انتقاد حاد أيضا لخوفه من تناول ملفات هامة ضمن اختصاص المحكمة (العراق، الضفة الغربية، أفغانستان، لبنان، غزة)، ولحصر عمله في أربعة ملفات إفريقية (أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان). ملف الكونغو الديمقراطية رفع لأجل غير مسمى قبل شهر والانتقادات ازدادت على المدعي العام، فحاول إرضاء الدول الغربية بملف دارفور.


هل يعني ذلك أن دارفور ليست من اختصاص المحكمة؟
- لا، دارفور من اختصاص المحكمة منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1593 لعام 2005 (القرار الذي ينص على إحالة الوضع القائم في دارفور منذ الأول من يوليو 2002 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية). المشكلة أن استراتيجية المدعي العام قامت بادئ الأمر على التركيز على وزير الداخلية وزعيم ميليشيا. ووصل به الأمر لطرح مشروع اختطاف أحمد هارون الوزير السوداني. ثم غير سرعة القطار نحو القصوى بطلب اعتقال الرئيس السوداني في نص يحوي تناقضات ومعلومات غير أمينة أو دقيقة. من المضحك أن يأخذ مثلا تصريحا للبشير في تعبئة القوات المسلحة يقول فيه "لا أريد أسيرا ولا جريحا في قتال المتمردين" كدليل على النية المبيتة في الإبادة الجماعية. تصريح من هذا النوع نسمعه في الخطاب التعبوي لكل حرب. كل يوم نسمع للمسؤولين العسكريين الإسرائيليين تصريحات من هذا النمط. الإبادة الجماعية مشروع إيديولوجي منظم ومخطط له في الواقع، للقضاء على جماعة معينة جزئيا أو كليا وليس على مقاتليها. اللجنة العربية لحقوق الإنسان وأطباء بلا حدود ونخبة من خبراء القانون الدولي ترى في هذه التهمة مزايدة غير موثقة على المنظمات الحقوقية.


لكن كيف يمكن اعتقال الرئيس السوداني وفق اجراءات المحكمة؟
- اسأل السيد أكامبو، ميلوزوفيتش لم يعتقل وهو يمارس سلطاته. بل جاء ذلك بعد خروجه من الحكم عندما سلمه معارضوه الذين صعدوا للسلطة. وأظن أن أحدا لا يفكر باختطاف البشير أو تسليمه لنفسه لمحكمة لا يعترف بها. بصراحة، رأيي الشخصي أن ما نشهده مسرحية ضارة. وهي لا تسمم عيش الحاكم كما يظن البعض، بل تؤرق كل من ناضل من أجل عدالة جنائية دولية مستقلة ونزيهة. المدعي العام يمارس الكثير من السياسة والقليل من القضاء. أشخاص مثلي، دافعوا عن ولادة محكمة جنائية دولية منذ 22 عاما، نجد أنفسنا أمام كراهية شعبية للمحكمة في إفريقيا والعالم العربي. الاجراءات الاحترازية التي أتخذتها الإدارة الأميركية تجعل اليوم من المستحيل محاكمة أميركي أمام المحكمة الجنائية الدولية حتى ولو أرسل قنبلة نووية فوق لندن أو القاهرة. السيد أكامبو، برغم صلاحيته في مباشرة تحقيق من تلقاء نفسه في جرائم من اختصاص المحكمة حصلت بعد 2002، أي في ملف الجدار العازل والاستيطان والقتل العمد والحصار كون سكان الضفة الغربية الضحايا نصفهم أو أكثر يحمل الجنسية الأردنية، والأردن صدقت على المحكمة الجنائية الدولية، نجده يلتزم الصمت على الدولة العبرية ويسير على هدى المثل الشعبي (رحم الله قاضيا عرف حده فوقف عنده).


- هل يعني ذلك أن لاهاي ومحكمة الحريري لا تختلفان؟
- لا مجال للمقارنة بين محكمة ولدت في مجلس الأمن وأخرى خارجه ولو أنها أعطته صلاحيات. المحكمة الجنائية الدولية حل وسط بين محكمة دولية قوية ودور لمجلس الأمن. محكمة الحريري هي قرار يقول بأن القضاء اللبناني عاجز عن أداء مهمته، حتى في ظل حكومة وحدة وطنية. في حين أن القضاء العراقي مثلا قادر على فعل ذلك، ولو في ظل الاحتلال.. هنا الأمر سياسي أولا وثانيا وثالثا.


ما هو مستقبل العدالة الجنائية الدولية بعد هذه الجعجعة؟
- إذا تصورنا أن تطبيق الاختصاص الجنائي في بروكسل أو مدريد أو المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية قد أرّخ لحقبة جديدة بكل معاني الكلمة، فنحن ضحية تفاؤل مبسّط. ففي عالم ينتمي بتقاليده لما قبل الحقبة التي تمثلها المحاسبة العالمية، سنواجه كل يوم مشاكل أساسية مثل: هشاشة وضع الضحايا وعدم توافر الحماية اللازمة لهم، قوانين العفو المحلية الكريمة بحق الجناة ـ كون الدولة بمنطقها حريصة على نجاة من خدمها (لنتذكر أن المخابرات الأميركية جلست فوق رأس القاضي الأميركي في محكمة نورنبرغ لإنقاذ رؤوس من تعامل مع الجيش الأميركي من النازيين) ـ، فكرة رفض تسليم المجرمين، مبدأ زوال الجريمة بالتقادم، الحصانة السياسية والدبلوماسية المثبتة في أكثر من نصف دساتير العالم لأصحاب القرار في الحرب والسلم، مشكلة التعويضات.. أمام كل هذه المشاكل "العادية" في حقبة الانتقال التي نعيشها، ثمة أيضا مشاكل جيو سياسية تزيدها تعقيدا: من يتحدث اليوم عن المنظومة الموازية القائمة على الاتفاقيات الثنائية للإدارة الأميركية التي تهمش صلاحيات وسقف وامتداد المحكمة الجنائية الدولية؟ الكل يذكر كيف أصرّت الأطراف الأقوى على ألا تعتمد المحكمة الجنائية الدولية وحسب على مبدأ القضاء الواقف والقضاء الجالس، أي الادعاء العام والمحاماة، بل وضعت بينهما ما يمكن تسميته بالمقرفص المتربص (أي مجلس الأمن). لكي يكون هناك نوع من "حق الفيتو" في الوقت المناسب للحؤول دون ذهاب العدالة إلى آخر الشوط الذي سينال بالتأكيد مقومات الظلم المعاصرة، وليس فقط صغار الحيتان.

2008-07-23