ارشيف من :ترجمات ودراسات
تقدير المخاطر والفرص الاستراتيجية وفق خبراء شعبة التخطيط في الخارجية الإسرائيلية

صحيفة "السفير" - حلمي موسى
توفر وثيقة تقدير الموقف التي أعدّتها وزارة الخارجية الإسرائيلية حول المخاطر والفرص التي تنتظر إسرائيل في العام 2008ـ2009 فرصة جيدة للإطلالة على المستجدات في نمط التفكير السياسي الإسرائيلي. والواقع أن الانشغال بهذه الوثيقة يعتبر أمراً جديداً نسبياً في ضوء حصر تقدير الموقف العام الإسرائيلي رسمياً بـ«التقدير السنوي القومي» الذي تعدّه شعبة الاستخبارات العسكرية في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي. فالوثيقة من جهة تشير إلى الرغبة في تكوين موقف من اتجاهين: الأول يحاول رسم صورة شمولية للحالة الدولية والإقليمية تتجاوز النظرة الأحادية العسكرية, والثاني يحاول التأسيس لعلاقة مؤسساتية بين ثوابت رسم السياسة وبين متغيرات الحكم في إسرائيل.
ومن الجلي أن المواقف التي تُعرب عنها شعبة التخطيط في وزارة الخارجية الإسرائيلية لا تتناسب مع السياسة التي يعلنها وزير الخارجية الحالي أفيغدور ليبرمان، ولا مع السياسة العامة للحكومة الإسرائيلية. فهذه المواقف متأثرة, ربما, برؤية الحكومة السابقة ووزيرة الخارجية فيها تسيبي ليفني, ولكنها في الوقت نفسه تعبّر عن نظرة «النخبة الدبلوماسية» التي تعتبر «جهة الاختصاص» في وزارة الخارجية الإسرائيلية.
وثمة أهمية واضحة للمنهجية المستخدمة في تحليل الواقع والتعرف على مستجداته. ولكن لا تقلّ أهمية عن ذلك محاولة الربط بين هذه المنهجية وأساليب العمل في وزارات خارجية عريقة, كالبريطانية مثلاً, والمؤسسات الأكاديمية. والواقع أن هذا النمط من التقارير, التي تخفي في صيغتها العلنية الكثير من المواقف والتحليلات التي قد يضرّ نشرها بالعلاقات مع جهات حليفة, تستند إلى الكثير من المواد السرية. فوزارة الخارجية الإسرائيلية تمتلك الجهاز الرابع في أهميته الاستخبارية في إسرائيل وهو مركز الدراسات السياسية. ويطل هذا المركز في الغالب على أهم ما يتوفر من معلومات استــخبارية للأجهزة الثــلاثة الكــبرى الأخــرى, شعبة الاستخبارات, الموساد والشاباك. وهو ثالث جهة بحثية في إســرائيل تقدّم الدراسات للمؤسسة الحاكمة بعد وحدتي الأبحاث في شعبة الاستخبارات وفي الموساد، كما أن ممثليه يشاركون في كل تقييمات التقدير الاستخباري القومي في الحكومة ويعرضون رؤيتهم.
والواقع أن إسرائيل, وفق الكثيرين من صناع القرار فيها, وبينهم رئيس الطاقم السياسي ـ الأمني في وزارة الدفاع الجنرال عاموس جلعاد يلحظون نوعاً من التناقض المعاش في الحالة الإسرائيلية. ويشعر بعضهم, مثلاً, بالغضب الشديد جراء حماقات سياسيين إسرائيليين كأرييه ألداد الذي أثار أزمة مع الأردن بتقديمه اقتراحاً للكنيست حول اعتبار الأردن وطناً للفلسطينيين. ويرى هؤلاء أن العديد من الحمقى الإسرائيليين لا يدركون حجم التغييرات التي طرأت لمصلحة إسرائيل في المنطقة العربية، بحيث غدا قسم من «أعداء الأمس» عمقاً استراتيجياً حقيقياً لإسرائيل. ويشدّد هؤلاء على أن هناك قوى عربية تقمع بعض المخاطر على إسرائيل من بعيد كما أن بعضها أزال أخطاراً كانت ماثلة على الدوام في الماضي.
وفي الآونة الأخيرة تتزايد في إسرائيل الدعوات لإعادة النظر في نظرية الأمن القومي وفي مستتبعاتها العملية. فقد نشأت نظرية الأمن الإسرائيلية على قاعدة أنها محاطة بأعداء كثر ومن دون أصدقاء قريبين وأن صغر مساحتها لا يسمح لها بأن تدور الحرب على أراضيها. ولهذا السبب بُنيت نظرية القتال فيها على أساس الحرب الوقائية والسريعة ونقل المعركة لأرض العدو وامتلاك القدرة على الحرب في مختلف الجبهات دفعة واحدة وعدم انتظار العون من الأصدقاء. ولكن إسرائيل اليوم محاطة في الغالب بدول تقيم معاهدات سلام وتتعاون أمنياً معها أو بدول تحكمها اتفاقيات هدنة أو فصل قوات. وهذا يعني أن الخطر القريب لم يعد حاسماً في حين نشأت بالمقابل أخطار تسمى هنا بأخطار المنظمات «دون الدولة» أو بالأخطار البعيدة مثل الخطر الإيراني.
وفي كل الأحوال فإن تغيير الأخطار وازدياد التعقيد في التعامل معها أضاف الكثير لقيمة المؤسسات البحثية الرسمية مما يعني أن تقرير وزارة الخارجية المعروض هنا يسمح لنا بالإطلاع من طرف أول على أنماط وطرق التفكير والنظر الإسرائيلية إلى الواقع المحيط ومتغيراته.