ارشيف من :أخبار عالمية

باريس تطرق بوابة دمشق: نهاية مغامرة شخصية ورّطت دولة

باريس تطرق بوابة دمشق: نهاية مغامرة شخصية ورّطت دولة

ما الذي فعلته دمشق حتى تندفع نحوها باريس بلا قيود، متجاوزة بسرعة قياسية ثلاث سنوات من القطيعة الجافة قررها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لأنه يشتبه بضلوع سوريا في اغتيال صديقه رفيق الحريري؟ هل يكفي الإعلان الفرنسي الرسمي الصادر عن أعلى المستويات بان سوريا نفذت تعهداتها في النزاع اللبناني بتسهيلها انتخاب رئيس جديد في 25 أيار/ مايو الماضي، لتفسير عملية كسر الحواجز والقيود الدبلوماسية والنفسية بهذه السرعة؟

بالتأكيد لا.

باريس تطرق بوابة دمشق: نهاية مغامرة شخصية ورّطت دولة فهذا التبرير الفرنسي يقارب حد السذاجة لان ما حصل في اتفاق الدوحة وما بعده كان بكل المقاييس والمؤشرات انجازاً لقوى المعارضة اللبنانية ومن يقف وراءها اقليمياً، أي ايران وسوريا، وبالتالي فان انتخاب العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية، وهو الذي حظي ترشيحه بتأييد دمشق منذ البداية، وحصول المعارضة على الثلث الضامن في حكومة الوحدة الوطنية وعلى قانون انتخاب يعطيها الاغلبية النيابية عام الفين وتسعة، كل ذلك عد مكسباً للمحور الذي كان يواجه المحور الاميركي الاسرائيلي والذي ألحقت فرنسا بذيله.

الواضح ان الرئيس نيكولا ساركوزي كان يتحين الفرصة لرمي إرث سلفه شيراك ومواقفه تجاه العلاقات الفرنسية السورية في سلة مهملات التاريخ لأنه ألحق بمصالح فرنسا قدراً من الخسائر لم يكن أحداً ليعوضه: من راهن عليهم في لبنان من أدوات محلية أثبتوا عجزهم، فضلا عن اعطائهم المصالح الاميركية والسعودية الأولوية على المصالح الفرنسية؛ ولا واشنطن نفسها التي تبدو اقليمياً في وضع لا تحسد عليه، عبر تنقلها من إخفاق الى آخر، آخره الاخفاق في الملف اللبناني عندما سحبت المعارضة وعلى رأسها حزب الله البساط من تحت إقدامها في ليلة واحدة لم تكن كافية لهروب الجواسيس المحليين وعناصر الاستخبارات الأمريكية والغربية والعربية الذين كانوا يديرون فريق السلطة في لبنان.

ويبدو أن ساركوزي عرف جيداً ما ستؤول اليه الأمور من خلال تقديرات الاستخبارات الفرنسية التي بقيت لوحدها تنادي بعدم الذهاب وراء شيراك وحساباته الشخصية في مقاربة الملفين اللبناني والسوري، وعدم تمييزه بين ما هو خاص وما هو عام، وانعكس ذلك صراعاً بين دوائر في الخارجية والاستخبارات وأخرى في الاليزيه أرادت الذهاب كثيرا في استعداء دمشق ولو على حساب شاهد زور كمحمد زهير الصديق الذي لم يعرف كيف اختفى من بين أيدي حراسه الظاهرين والمخفيين بعدما باتت في مهب الريح كل نتائج التحقيقات التي أخذت الاتهامات في وجهة واحدة نحو شبهة سورية في الجريمة.

الواضح ان الاعدام المعنوي لشهادة الصديق الملفقة كان جزءاً من فتح الباب أمام باريس لتبدأ التقرب الى دمشق، فانطلقت من الوساطة الفرنسية لحل الأزمة اللبنانية التي سمح الاميركي لساركوزي القيام بها على هامش اللعبة وليس في متنها، فاجتمع وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر في اسطنبول مع نظيره السوري وليد المعلم، في أول لقاء رفيع المستوى بين البلدين منذ العام 2004. ثم أوفد ساركوزي الى دمشق مستشاره الدبلوماسي جان دافيد لوفيت والأمين العام للرئاسة كلود غيان.
لكن بعد عدة أسابيع من الجهود الدبلوماسية الكثيفة تحدث ساركوزي عن "عدم تعاون سوري" ليعلن في 30 كانون الاول/ ديسمبر من القاهرة تعليق اتصالاته مع الرئيس بشار الاسد الى حين انتخاب رئيس لبناني توافقي، مع العلم أن ساركوزي يعرف أن من عرقل مهمته هم الاميركيون باعتراف الأخيرين أنفسهم ودون أي حرج، لكن لم يكن بمقدوره أن يرفع الصوت عاليا في وجه واشنطن ففعله بوجه دمشق، وهو يعرف انها كانت عنصراً مسهلاً وليس معرقلاًَ. كما يعرف تماما ان مكتسبات بلاده اذا استمرت في المشي وراء ادارة جورج بوش ستكون صفراً. وعليه فان التوليفة الفرنسية لاتفاق الدوحة واعتباره تسهيلاً سورياً مع انه انتصار سوري وهزيمة أميركية وفرنسية في آن، كان ضرورياً لكي يبادر ساركوزي نفسه الى الاتصال بالأسد ويشكره على انتصاره، ومن ثم تكر السبحة على شكل اندفاعة قوية نحو فتح صفحة جديدة من العلاقات بين بلديهما، توجت بدعوته أولاً الأسد للمشاركة في قمة الاتحاد المتوسطي في الثالث عشر من تموز/ يوليو المقبل، واتبعها بدعوة شخصية للرئيس السوري ليحضر الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي ويقف الى جانب حشد من رؤساء الدول والحكومات من جنسيات متعددة يشاهدون عرضاً عسكرياً فرنسياً بالمناسبة في جادة الشانزلزيه. وقبل ذلك كانت زيارة وزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا الى باريس بدعوة رسمية، ليكون أول وزير سوري يزورها منذ ثلاث سنوات، تتوج انهاء سياسة القطيعة وفتح صفحة جديدة على ان تتواصل التطورات الايجابية التي سجلت أخيراً كما جاء في اعلان الخارجية الفرنسية، وكان أرفع مؤشراتها زيارة لافيت وغيان الى دمشق ولقائهما الرئيس الاسد والنتائج الايجابية التي خرج بها اللقاء والتي يتوقع ان تظهر مفاعيلها قريباً.

بالتأكيد هذه الخطوات أثارت أولاً استياء واشنطن التي عبرت عن ذلك صراحة سواء في تصريحات المتحدث باسم الخارجية شون ماكورماك بابداء تحفظ بلاده عن رغبة ساركوزي في اعادة العلاقات مع دمشق، مشيرا الى ان ادارته ستناقش الأمر مع باريس وستطلب توضيحات من الحكومة الفرنسية.

لكن أكثر من الاعتراض الصوتي لا تستطيع أن تفعل واشنطن تماماً كما يفعل فريقها في لبنان الذي أصابته موجة كآبة جديدة وهو يشاهد الفك الفرنسي للطوق عن عنق القيادة السورية بعد سنوات من محاولة تطويقها به، بالتلفيق والتزوير والتهديد بالمحكمة الدولية، ليضاف ذلك الى احباطهم من عجز فريقهم العربي عن وقف الاندفاعة الخارجية تجاه دمشق التي تبدو اليوم مرتاحة أكثر من أي وقت مضى وهي تشاهد بنيانا سياسيا ومشروعا كبيرا أعد لاستهدافها يتهاوى دفعة واحدة.

ذلك أن التجربة الفرنسية من شأنها أن تعيد خلط الأوراق، لا سيما اذا كانت باريس قررت أن تميز نفسها عن السياسة الخارجية الاميركية وتعطي لمشروع الاتحاد المتوسطي أولوية كبيرة كمجال اقليمي يعوضها عما خسرته منذ كانت دولة ذات ثقل في الشأن العالمي، وبالتالي فان الحاجة الفرنسية لسورية ستبقى قائمة بشأن هذا المشروع، أو كممر اجباري لتنشيط دورها الشرق أوسطي، ما يعني ان قاصدي دمشق من الآن فصاعداً سيتكاثرون، بالتوازي مع أخذ الرئيس السوري على عاتقه دفع العلاقات مع لبنان الى مستوى اقامة سفارات وتبادل سفراء بعد تشكيل حكومة الوحدة فضلا عن احتمال زيارته بيروت، وبالتالي تكون سوريا رمت الملف اللبناني وراء ظهرها كمصدر لابتزازها، وهي الآن في موضع تستجدي منها اسرائيل مفاوضات غير مباشرة لإعادة الجولان لها، لكن دون ثمن كما اكد الاسد، لانه ليس لديه ما يعطيه مقابل ارض سورية محتلة يجب ان يخرج الاسرائيلي منها، وبالتالي تكون سقطت المناورة الاسرائيلية لربط مفاوضاتها بفك سوريا علاقتها مع ايران ومحور المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية.

الخلاصة أن سوريا عادت لاعباً اقليمياً من أكثر من بوابة وفي الوقت نفسه أبقت على خياراتها الاستراتيجية، لا بل اثتبت لمن كان يأخذ عليها تحالفاتها خارج النطاق القومي انها خيارات صائبة، مقابل ان دولة كبيرة كفرنسا لم تستطع ان تفصل ما بين الخاص والعام وذهبت باكملها خلف حسابات رئيس أصبح خارج الزمن.
عبد الحسين شبيب 

2008-06-15