ارشيف من :أخبار عالمية
جولة أوباما الخارجية: ساعدوا أميركا يا محسنين!

كتب عقيل الشيخ حسين
أكثر من سبعة أيام أمضاها، خارج الولايات المتحدة، المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية، باراك أوباما، في زيارة بدأت "سراً" في أفغانستان، واشتملت في ظل تغطية إعلامية واسعة على العراق والأردن و"إسرائيل" والضفة الغربية، قبل أن تنتهي في أوروبا، بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وبما أن كل شيء يمكن تأويله واستثماره في المعركة الانتخابية، فقد حرص أوباما على إعلاء شأن نفسه عبر تفضله بانتقادها على هذا "الجفاء" تجاه الناس الذين تركهم في أميركا يكتوون وحدهم بنيران ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة سوق الائتمان العقارية. ولكي يظهر بمظهر من لا يستثمر في هذا الطرح، أكد أوباما على ارتفاع منسوبه من التضحية عندما توقع بأن جولته الخارجية هذه ستجعله يخسر نقاطاً في استطلاعات الرأي!
النوع نفسه من السباحة على أمواج التلاعب بالمعاني مارسته مجلة نيويوركر، لا من خلال نشرها رسماً كاريكاتورياً يمثل أوباما وهو يرتدي جلباباً وعمامة مع زوجته بثوب مرقط وبندقية رشاشة في غرفة بيضاوية تعلوها صورة لبن لادن... بل من خلال تأويل أحد مسؤوليها لدلالات الرسم على أنها لا تسخر من أوباما، بل مما يثار حوله من شائعات، وعلى أنها تهدف إلى توبيخ أولئك الذين يلجأون إلى أساليب قبيحة في محاولة النيل منه، عبر التركيز على لون بشرته وجذوره الإفريقية أو الإسلامية. منافسه الجمهوري، جون ماكين، كان أقل براعة عندما تكلم على المكشوف عن عدم لزوم تلك الجولة (هو نفسه جال خلال حملته الانتخابية، ولكن بشكل متقطع، على جميع البلدان التي زارها أوباما)، وأظهر حنقه الشديد من التغطية الإعلامية التي حظيت بها تلك الجولة، في تحيز واضح، عبر عن نفسه من خلال امتناع مجلة نيويورك تايمز عن نشر مقالة له حول العراق. تحيز لا يستهدف ماكين وحده، بل "يستهدفكم أنتم"، على ما قاله للأميركيين خلال احتفال انتخابي متزامن مع مرحلة من مراحل جولة أوباما. ولكي يستمر ماكين في المعركة، كرر مقولاته عن تفوقه على منافسه في مجال الخبرة بإدارة شؤون الأمن القومي والحروب. مع التذكير بمشاركته في حرب فييتنام حيث أسقطت طائرته وسجن خمس سنوات في فييتنام الشمالية، يوم كان أوباما يلعب بالكلل.
ما هو أكثر إثارة للاهتمام في المباريات المفتوحة بين المتنافسين، الديموقراطي والجمهوري، على أهمية ما يرد فيها من ضروب التفنن في التكتيكات والصياغات اللفظية، هو المواقف العملية لكل منهما من مختلف القضايا المطروحة على الساحتين الأميركية الداخلية، والدولية الخارجية. والحق يقال إن ماكين الواضح في يمينيته لا يستثير غريزة البحث والتحليل عند المراقبين. فكل شيء مكشوف بعكس ما عليه الأمر عند أوباما المتمزق بين "يسارية" ضحلة لا يعترف بيساريتها اليساريون، وبين ثوابت ترعرعت منذ ولادة أميركا على إرادة التفوق والولاء المطلق لفكرة أميركا منظوراً إليها من زاوية عظمتها.
هذا التمزق برز واضحاً في المحطات الأساسية لجولته. أفغانستان والشرق الأوسط وأوروبا. فإذا ما أهملنا التسلسل وبدأنا بالشرق الأوسط، لوجدنا اضطراب باراك إزاء عقدته الناجمة عن اتهامه، في جملة الاتهامات، بضعف انتمائه الأميركي، وبالتعاطف مع محنة الفلسطينيين، وبوعوده بالانسحاب السريع من العراق، وبالرغبة في محادثات رفيعة المستوى مع إيران. وكل ذلك رد عليه في أكثر من مناسبة بالتشديد، فيما يخص "إسرائيل" على يهوديتها، وقيامها كمعجزة، وعاصمتها الأبدية وحدودها الآمنة، مع استعداد للتراجع والتراجع عن التراجع في ما يشبه المشي بين نقاط المطر من غير بلل. أما بخصوص العراق، فقد تحول الانسحاب السريع إلى وعد بانسحاب في مدى 16 شهراً، من غير أن يحول ذلك دون إشارات إلى ضمانات استراتيجية. فيما تكلم عن إيران وما يشكله برنامجها النووي من تهديد للبشرية. وكل ذلك، لا يفيد معنى أكيداً، بل يصح التعامل معه كسلوك تكتيكي قد لا يعكس توجهات أوباما الفعلية بقدر ما يعكس رغبته بالفوز الانتخابي.
لكن الأمر مختلف فيما يخص أفغانستان وأوروبا. فقد كان من اللافت أنه تحدث في أوروبا عن أفغانستان أكثر مما تحدث عن أوروبا، إلى درجة استاءت معها بعض الصحف من الحفاوة الشعبية التي قوبل بها في ألمانيا، وهي الحفاوة التي لا يطمح إليها أكابر نجوم الروك! وإذا كان من الصحيح أن كثيراً من الأوروبيين ينتظرون من أوباما (جون كينيدي زماننا، كما يقولون) أن يعيد إليهم رومانسية استمتاعهم بتمثل أميركا الحرية والازدهار والإنزال على شواطئ النورماندي ومشروع مارشال، بعد صدمتهم بأميركا المحافظين الجدد وسياسات التفرد والتنمر وما جرته على العالم وأوروبا من أزمات سياسية واقتصادية وبيئية، فإن الأكثر صحة هو أن أوباما قد جاء إلى أوروبا مستجدياً أكثر مما جاءها مخلصاً.
فبالمختصر، وهذا أمر في غاية الخطورة، ركز أوباما في الشق الأوروربي من زيارته، على أن أميركا لا يمكنها أن تحل أزماتها الداخلية دون مساعدة من شركاء في الخارج. وهؤلاء الشركاء هم الأوروبيون (القارة العجوز، بحسب تعبير رامسفيلد)، بالدرجة الأولى. أما تفسير ذلك، فوفق السيناريو التالي: أميركا أخطأت عندما وسعت حربها إلى العراق بعد أن بدأتها بحظوظ شبه مضمونة بالنصر في أفغانستان. كانت النتيجة فشلاً هنا وفشلاً هناك، وانعكاسات سلبية كبرى للفشل على الداخل الأميركي. الحل هو في العودة إلى التركيز على أفغانستان بإرسال كتيبتين أميركيتين (عفواً، يقول أوباما) بإرسال كتائب أطلسية (أوروبية) كثيرة! وبذلك يصبح بإمكان الولايات المتحدة أن توفر مليارات الدولارات وأن تخفض الأعباء عن كاهل دافعي الضرائب الأميركيين. وبذلك تعود أميركا إلى سابق عزها بفضل أوروبا. كلام يعطي كثيراً من المصداقية لقول القائلين المتكاثرين بأن أميركا قد دخلت في طور تفكك أين منه التفكك السوفياتي.
الانتقاد/ العدد1285 ـ 29 تموز/ يوليو 2008