ارشيف من :آراء وتحليلات
بدون تعليق:
خاص الانتقاد 11/6/2009
محمد الحسيني
روي في مكان ما في غمرة الزمان أن قرية استفاقت على عودة رجل من أهلها كانوا طردوه من بينهم في يوم من الأيام لموبقات اقترفها، وخيانات ارتكبها، واعتداءات فعلها بحق أهل قريته وبنيها، ولم يوفر منهم قريباً كان أم بعيداً، فاستوطن بعد طرده كهفاً على مدى سنوات، إلى أن ضربت القرية عاصفة أثارت بها الغبار وطالت بأذاها الكبار والصغار، ولم تميّز بنكستها أهل الدار والجار..
وإذا بهذا الرجل قد جرت على لسانه ينابيع "الحكمة"، واتخذ من هضبة مستقراً له، وارتدى لبوس الوقار والرزانة، وطفق يطلق في كل يوم نبوءة يحذّر فيها الناس من ويل يتهددهم، وثبور يترصدهم، ويرفع يديه إلى السماء ليدعو ربه أن ينجي أهل القرية مما تنبأ لها، ولكن يبدو أن دعاءه كان سبباً في تعجيل نزول النكبة بالقرية، وصارت السنة فصلاً خريفياً واحداً تتساقط فيه الأوراق الخضراء، وحل الجدب والقحط بأرزاق الناس وأرواحهم..
ظن الناس أن هذا الرجل قد حظي بمنّة من الله فألهمه معرفة الغيب فجعله "حكيم".. وبدأوا يتقاطرون إليه لنيل البركة وطلب كشف الطالع. فمنهم من طلب معرفة مستقبله السياسي، ومنهم من طلب التمسّح به والفيء في ظله، ومنهم من سمع ضحكات هذا "الحكيم" في السرّ وهو يودّع مرتاديه بعد كل زيارة، ومنهم من كان يسمع حفيف فرك كفيه وراء الستارة، ولكن قليلاً منهم من كان يطّلع على كتابات أوراق هذا "الحكيم" أو يرصد من منظاره مستقبل القرية في ظل نبؤاته المدمّرة..
صدق الناس نبؤات هذا "الحكيم"، حتى صدّقها هو ومحيطه ومقرّبوه ومن يدور في فلكه ويجلس على طاولة اجتماعاته، خصوصاً أنه نجح في جعل أكثر الناس ينسَون تاريخه الأسود، أو يتناسَونه، أمام هول ما كان يتنبأ به، وتعلّق الناس بحبل الخلاص الذي أوحى لهم بأنه ممسك بطرفه، ووصل به الأمر إلى درجة وكأنه بات يشارك الله في تحديد مصائر العباد والبلاد.. ولكن لهذا "الحكيم" سقطات لاحظها كل الناس، إلا أن معظم من صدّقوه لم يقرأوا تفاصيلها..
بالأمس تنبأ هذا "الحكيم" أن تهزم المعارضة في لبنان وأن تنهار زعامات في هذه القرية وتذهب الزعامة إليه صاغرة تنشد قبوله المبايعة، تنبأ أن يزداد نفوذه ويكثر أتباعه وولاته في ندوة القرى.. وصدق "الحكيم" مجدداً وانهزمت المعارضة، ولكن الزعامة لم تذهب إليه، بل أن من تنبأ "الحكيم" بسقوطه استحصل على أرقام أكبر وأعداد أكبر من ولاة القرى. وبقي "الحكيم" في هضبته بدون زعامة ونقص ولاته واحداً بدل أن يسيطروا على الندوة، والأنكى من ذلك كله أنه استجلب معه آبقين مثله كانوا قد ساوموا يوماً على سيادة القرية واستقلالها وحاولوا تسليم مقاليد حكمها إلى أعدائها باتفاق سقط بفعل دم مجموعة من الوطنيين المخلصين..
وها هو "الحكيم" اليوم يحاول من جديد أن يقلب الصورة ويشوّش ألوانها ويسوّد نقاءها، بمحاولة تحوير حقيقة تراجعه، وبات عليه الآن أن يتخلص من منافسه الذي من نفس جلدته، ولا شك في أنه يعكف الآن على صياغة نبؤات جديدة ليستعيد وهجاً خبا وحضوراً أفل مع تغيّر التوازنات وتبدّل الظروف، بانتظار عاصفة جديدة قد لا تأتي في المدى القريب.