ارشيف من :آراء وتحليلات

على العهد: الأنظمة والمقاومات والاحتلال

على العهد: الأنظمة والمقاومات والاحتلال
كتب ابراهيم الموسوي
ثمة مشكلة خطيرة في العالم العربي والمنطقة تتمثل في الانقسام الحاصل بين الأنظمة الرسمية وشعوبها، ولا تتأتى خطورة المشكلة فقط من اصطفاف كل من الطرفين في معسكرين متقابلين، بل من كون هذين المعسكرين قد أصبحا على طرفي نقيض. فواحد يدين بالولاء والانخراط الكامل في مشروع الأعداء، وتتموضع فيه الأنظمة العربية الرسمية، وآخر يدين بالمقاومة والإيمان بمشروع تحريري نهضوي يستعيد الهوية والتراث، ويتمثل بالشعوب العربية وحركات التحرر والمقاومة.
ومع اندفاع الولايات المتحدة الاميركية كزعيمة للمعسكر الأول باتجاه تنفيذ اجتياحات واحتلالات عسكرية واسعة في المنطقة خدمة لمشروع استئثارها بقيادة العالم والتحكم بموارده الغنية بالطاقة، ولا سيما منها النفط والإمساك بطرق الإمداد، وبالتالي التحكم بالأسواق أيضاً، بدأ فصل جديد يرتسم في مربع العلاقة الحساس بين الأنظمة وشعوبها، وإذ أمسى الفرز واضحاً والانقسام خطيراً لدرجة كبيرة، ذلك أن الاستهداف الأول للاحتلالات والاجتياحات كان القضاء على بؤر الممانعة والمقاومة وإنهاء القوى الحية وخنق الإمكانيات الواعدة التي ما زالت تخفق بين ظهراني هذه الأمة، طبعاً، فإن هذا المشهد لا يخلو من استثناءات، وهي بالمناسبة استثناءات واعدة جداً. يندفع المشروع الأميركي على مسارات عدة في المنطقة.
ـ مسار أول يقوم على أولوية إنهاء أية قدرة عربية رسمية أو شعبية على المواجهة الحقيقية أو معارضة المشروع الأميركي الغربي عموماً، وهو ما تمثل باحتلال العراق ومحاصرة سوريا وايران وتهديدهما.
ـ مسار ثانٍ يتمثل بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية وإزاحتها عن محور كونها جوهر الصراع العربي الإسرائيلي باتجاه تحويل الصراع فلسطينياً ـ اسرائيلياً، وبصورة أدق صراع بعض الفلسطينيين مع كل الاسرائيليين ومن ورائهم الغرب والعديد من الأنظمة العربية.
ـ مسار ثالث يتلخص بدمغ حركات المقاومة والتحرر بالإرهاب، ومحاولة خنق صوتها وتحركها ومحاصرتها حتى داخل بلدانها من خلال تقوية أنصار المحور النقيض على المستويين الرسمي والشعبي.
وغني عن القول، إن الاستراتيجية الاميركية الجديدة التي تنضوي تحتها العديد من الأنظمة العربية الرسمية تستهدف راهناً وفي رأس أولوياتها حركات المقاومة ولا سيما بعد الانجازات الهائلة التي راكمتها، والغاية من الاستهداف إحداث شرخ عميق بين حركات المقاومة وجماهيرها في الأمة من خلال عناوين طائفية ومذهبية وقُطرية ضيقة.
لم تلق حركات المقاومة في أي مكان من العالم إجماعاً كاملاً، كما أنها في معظم الحالات لم تقدم نفسها رديفاً للسلطة والنظام الحاكم، أو بديلاً عنهما، فكان من الطبيعي أن يقتصر جمهورها على المؤمنين حصراً بأفكار المقاومة والتحرر والاستقلال الوطني، ذلك أن المقاومة ليست ثورة تستهدف التغيير الداخلي، بل حركات تحرر تستهدف التخلص من نير الاحتلال الخارجي.
أما على مستوى المقاومة في العالم العربي بدءاً بالعراق مروراً بلبنان وصولاً إلى فلسطين، فإن المقاومة أضحت تمثل بشكل لا لبس فيه تعبيراً أكيداً، جازماً ونهائياً عن تبلور إرادة جماعية ناجزة للأمة تتحسس خطراً جسيماً دائماً على وجودها ومقدراتها وطاقاتها، وعليه فإن الاصطفاف حول هذه الحركات والدعم لها يكاد يكون عميماً وساحقاً لدى الشعوب العربية، في حين أن النظرة إلى الأنظمة تتراوح بين اعتبارها أنظمة ضائعة ومتآمرة أو مفرّطة بالحقوق ومضيّعة لها في أحسن الظروف.
ما هو البديل؟
لطالما أراد الاستعمار الغربي، وهو في هذه الحالة أميركي بالتأكيد، أن يذر قرن الفتنة الداخلية، والإيقاع بين الأنظمة والشعوب، أو بين حركات المقاومة وجماهيرها، ولكنه لم يوفّق إلى ذلك في أغلب الأحيان، غير أن بعض السقطات والهنّات قد سجلت في غير موقف وموقع على امتداد ساحة المواجهة مع الأعداء، وعليه فإن تضييع الأولويات سوف يبدّد جهوداً ثمينة ويصيب حركات المقاومة بالنكوص.
من هنا، فإن المطلوب هو استعادة الوجهة الحقيقية للصراع من خلال تحديد العدو الأساسي وتوضيح طبيعة استهدافاته المرحلية والنهائية، وأساليب وتكتيكات تحقيق هذه الاستهدافات، ما يمكّن من تفكيكها ويحسّن فرص التعامل معها على الوجه الأمثل.
إن استعادة العنوان الفلسطيني إلى قلب الصراع سوف تقضي على محاولات تاريخية حثيثة من جانب الأعداء لحرف وتضييع الوجهة الحقيقية للصراع، وخاصة أن فلسطين تمثل القلب من القضية والمركز من طبيعة الصراع، وعليه فإن الالتفاف حول مركزية هذه القضية وإحياء كل وسائل وآليات الصراع لدعمها سوف يعيد الوهج المفتقد للمقدسات الأساسية التي تمثل كينونة حضارية، لدى العرب والمسلمين في هذا الصراع، وهو ما قد يعفي العديد من الأنظمة مما أوقعت نفسها فيه من احراجات بالتزامها ركب المشروع الاميركي.
إن اعادة الأولوية لفلسطين كجوهر للصراع سوف تحتّم على حركات المقاومة والتحرر أن تعيد صياغة برامجها بما يتواءم مع تدرج الصراع وبرمجة مراحله، وسوف تعطي للأمة وجماهيرها فرصة الانخراط مجدداً ووضع إمكانياتها في خدمة الصراع بما يقضي على القُطرية والشرذمة والتقسيم.
إن المأزق الذي أوقعت بعض الأنظمة نفسها فيه وضيّعت فيه مقدّرات الأمة يمكن التخلص منه بملاقاة جماهيرها من خلال اعتماد الآليات الديمقراطية القائمة على استفتاء الشعب في الخيارات المصيرية للرد على حملة الاستزلام والاستتباع لأميركا وحلفائها الغربيين.
إن معالجة من هذا القبيل من جانب الأنظمة الرسمية هي الكفيلة بفتح الباب أمام مراجعة حقيقية للذات، وهي اذ تعيد القضية إلى مسارها القويم، ترسل رسالة حقيقية إلى الأمة وجماهيرها وحركات المقاومة فيها التي أثبتت قدرتها على ردع الأعداء، ويبقى أن يعتبر بذلك الخصوم الضالين المضللين أيضاً! لأن الأمة كفيلة بأعدائها، ولكن ليس قبل أن يحيد من دربها بعض أصدقائها والكثير من حكامها!
الانتقاد/ العدد1286 ـ 1 آب/ أغسطس 2008
2008-07-31