ارشيف من :أخبار عالمية

المؤتمر الوزاري لمجموعة عدم الانحياز: تصويب المسارات من طهران!

المؤتمر الوزاري لمجموعة عدم الانحياز: تصويب المسارات من طهران!
كتب عقيل الشيخ حسين
الشقة كبيرة جداً بين الوزن الدولي لمجموعة بلدان عدم الانحياز، أو على الأقل بين الآمال التي عقدت عليها، عند إطلاق الفكرة من قبل جواهر لال نهرو، عام 1954، أو عند اللقاء الأول الشهير لبلدان المجموعة في باندونغ، عام 1951...  وبين ما آلت إليه أوضاعها من التراجع والخمود في الفترات اللاحقة. في البدايات، كان العالم قد خرج لتوه من أتون الحرب العالمية الثانية. وكانت هزيمة بلدان المحور، وما رافقها من تطلعات تغذت في الغالب على وعود الانعتاق والحرية الصادرة عن القوتين الناشئتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تنعش الآمال في تخلص الشعوب المقهورة من نير الاستعمارين البريطاني والفرنسي. وكانت حركة الاستقلالات السريعة والمتلاحقة تلهب المشاعر في البلدان المستعمرة سابقاً وتبشر بعالم جديد قائم على التكافؤ والتعاون من أجل السلم والتقدم، وخصوصاً من أجل عودة الشعوب المغلوبة على أمرها إلى احتلال موقع متقدم في التاريخ.
لكن الصورة بدأت تأخذ لوناً قاتما جديداً مع ظهور الخلافات بين المنتصرين، وبروز العملاقين العالميين المتنافسين الجديدين، بهراوتين نوويتين تمثلتا بحلفي الأطلسي ووارسو والحرب الباردة. كان أمثال عبد الناصر، وتيتو، ونهرو، وشوإنلاي، وسوكارنو وغيرهم من قادة العالم الثالث يثيرون غضب الغرب بطموحهم إلى إقامة علاقات متوازنة بين المعسكرين، وتثمير هذه العلاقات لتصب في مصلحة الشعوب. والأكيد أن مصر عبد الناصر هي التي كان عليها أن تنال النصيب الأوفر من الضربات، لأسباب تتعلق بموقعها الوازن في العالمين العربي والإسلامي، وبطموحها الوحدوي، ومعاداتها لمحاور الأحلاف العدوانية الممتدة في شبكة تربط بين أنقرة وطهران وبغداد وتل أبيب، وخصوصاً بوقوفها على عتبة المواجهة مع "إسرائيل". فكانت حرب السويس، ثم حرب الخامس من حزيران/ يونيو، وتوالت بالتوازي مع ذلك صنوف الإخفاقات السياسية والاقتصادية الناشئة عن ضراوة المواجهة، وقلة الدراية، وسوء الإدارة والمحدودية في الرؤية. وتساقطت تباعاً أنظمة باندونغ، وبهتت صيغة عدم الانحياز، وانهار الاتحاد السوفياتي، في وقت غلا فيه المعسكر الغربي غلواً منكراً في الاستكبار والتفرعن، إلى حد الشروع بوضع خرائط جديدة تدخل العالم في طور الخضوع النهائي لهيمنة الإمبراطورية الأميركية.      
لكن العالم لم يكن قد سقط كثمرة ناضجة. فالدور الريادي التي اضطلعت به مصر في مواجهة قوى الاستكبار انتقل، مع زيارة السادات إلى القدس وخطابه أمام الكنيست، وما تبع ذلك من اتفاقيات استسلامية، إلى طهران تحديداً، مع تفجر الثورة الإسلامية، وتجدد الآمال الموؤودة، خصوصاً في ظل صمود الثورة أمام الحروب وأشكال التضييق والحصار والعقوبات ومحاولات الاحتواء والعزل، وصولاً إلى تحول النظام الإسلامي إلى بؤرة استقطاب كبرى للقوى الطامحة إلى التحرر في العالمين الثالث والإسلامي، وعلى مستوى بلدان عدم الانحياز تحديداً.
ما يلفت النظر في مؤتمر وزراء خارجية بلدان المجموعة الذي انعقد في العاصمة الإيرانية، بين 26 و30 تموز/ يوليو الجاري، ضخامة غير مسبوقة في الحشد: 118 بلداً وعشرات البلدان التي حضرت بصفة مراقب ومثلها من المنظمات الدولية والإقليمية. واشتمال الطروحات على جميع ما يعاني منه عالم اليوم من مشكلات تمتد بين مكافحة الإرهاب وحقوق الانسان والهيمنة الغربية والشرق الأوسط  والفقر والبيئة والتنمية والقضايا الإقليمية. وجرأة الطروحات التي تناولت بالإدانة، على لسان الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، تحكم الولايات المتحدة بالمنظمات الدولية، بما فيها مجلس الأمن، وضرورة إصلاح بنية هذه المنظمات ووظائفها، ودعوة بلدان عدم الانحياز إلى إدراك ما تمتلكه من مصادر القوة، واستخدام جميع الوسائل السلمية والاقتصادية لمنع القوى المهيمنة من الاستمرار في تطبيق سياساتها العدوانية. والأهم من ذلك، تسليط الضوء على قدرات بلدان المجموعة، وهي القدرات التي تسمح لها بالتصدي لحل المشكلات الدولية وقيادة العالم بالسبل الكفوءة والصالحة، في وقت بدأت فيه قوى الهيمنة بالدخول في طور التراجع والأفول.
والأكيد أن لقاء طهران الذي يأتي في وقت أصبحت فيه التهديدات بضرب إيران عسكرياً أبرز سمات هذه المرحلة، يعكس مدى ما تتمتع به السياسة الإيرانية من تأييد على المستويين الشعبي والرسمي في العالم الثالث، وهو تأييد يظهر فشل سياسات العزل والعقوبات المسلطة من قبل قوى الاستكبار. كما أن تأييد المجتمعين لحق إيران في امتلاك برنامجها النووي، واعتبار هذا البرنامج بمثابة ملكية جماعية لجميع البلدان الصديقة والتواقة إلى التحرر، قد شكل صفعة لأشكال الضغط الغربي المتواصل في هذا المجال. 
ومن مظاهر أهمية اللقاء، ما برز فيه من مواقف شددت، بلسان وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، على ثوابت الصراع مع "إسرائيل" والتضامن مع الشعب الفلسطيني، والتمسك بخيار السلام العادل على أساس قرارات الأمم المتحدة ومبادرة بيروت العربية والتمسك بإزالة الاحتلال وحق العودة، في ظل التحالف "الاستراتيجي" بين إيران وسوريا.
والواضح أن لقاء طهران قد أثار حنق الغرب، حيث تجاهلته وسائل الإعلام إلا من زاوية ما أثاره من توتر أحاط بالعلاقات الإيرانية المصرية. فالحقيقة أن فكرة عدم الانحياز والدور المركزي لمصر الناصرية في إبرازها، قد يثير حساسية الجهات التي تخلت، بعد عبد الناصر، عن موقع مصر كرائدة لعملية التحرر، واستبدلته بموقعها المسالم والمعتدل والمأزوم لقاء مساعدة أميركية هزيلة. لكن تلك الجهات التي لا يسعها أن تعلن بالفم الملآن انزعاجها من عودة الحياة إلى عدم الانحياز، وجدت طريقة لـ"تخفيف" مشاركتها فيه وبررتها بسيل من الذرائع بدءاً من شرعية بناء ضريح لخالد الإسلامبولي وانتهاءً بشريط وثائقي أخرجه إيراني حول عرض فصول من التاريخ الواقعي للرئيس المصري السابق، أنور السادات. وبالمناسبة، ومع إحسان الظن إلى أبعد حد ممكن، قد يكون من المطلوب أيضاً أن تظهر في مصر وفي غير مصر، ردود ولو شكلية على الإساءات الجسام المقترفة من قبل ما لا يحصى من أفلام وكتب ورسوم ومقالات وتصريحات وأفعال، بحق رموز لا مجال للمقايسة بينها وبين السادات.
الانتقاد/ العدد1286 ـ 1 آب/ أغسطس 2008
2008-07-31