ارشيف من :أخبار عالمية

الرهن العقاري الأميركي: أزمة عالمية غير مسبوقة

الرهن العقاري الأميركي: أزمة عالمية غير مسبوقة
كتب عقيل الشيخ حسين
في معرض كلام له العام الماضي عن الأزمة الاقتصادية العالمية وعلاقتها بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، قال الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، انه لا ينبغي السماح لقانون الغاب بأن يحكم الأسواق المالية في العالم. وكان الأصح أن يقول كلاما من نوع ضرورة العمل من أجل وقف تحكم تلك الشريعة بتلك الأسواق، لسبب بسيط هو أن هذا التحكم يضرب بجذوره قديماً في الزمن بحيث يصعب تحديد بداياته بدقة، اللهم إلا إذا انطلقنا من العام 1938، وهو تاريخ صدور قوانين تسمح للحكومة الأميركية بالمشاركة في مضاربات سوق السكن، بعد أن كانت هذه السوق حكراً على المصارف وشركات التأمين والمؤسسات المالية الخاصة. يومها كان العالم الرأسمالي مضطراً إلى تقديم ما يمكن تقديمه من خدمات معيشية للطبقات الفقيرة لكي يتمكن من المحافظة على وجوده أمام الضغط الذي كانت تشكله نجاحات النموذج الاشتراكي الصاعد في مجال الخدمات المعيشية كفرص العمل وشبه مجانية الإسكان والصحة والتعليم. وقد تمثلت مشاركة الحكومة الأميركية تلك بتوظيف كميات من الأموال العامة، أي ما يسمى بأموال دافعي الضرائب، في عمليات الرهن العقاري، بشكل يسمح للمستفيدين باقتراض تلك الأموال بفوائد أقل مما تتطلبه الشركات الخاصة. وقد أوكلت مهمة إدارة تلك العملية إلى جمعية تم إنشاؤها تحت اسم "الجمعية الفيدرالية للرهن العقاري الوطني" التي طرحت نفسها كهيئة رائدها مساعدة محدودي الدخل على شراء المنازل بشروط ميسرة جداً. وبسرعة، تمكنت تلك الجمعية من احتكار مجمل سوق الرهن عبر السخاء في شراء المصارف والمؤسسات العاملة في هذا المجال. كما لعب السخاء نفسه، من قبل متصرفين ومديرين مدعومين سياسياً ويتمتعون بحرية من يتصرف بمال غيره، في اجتذاب المستفيدين من العروض الميسرة وما يرافقها من مساعدات اجتماعية. وكان من الطبيعي للمصالح والتنفيعات الخاصة، خصوصاً في ظل تعقيد المعاملات التي لا ترحم المغفلين، وخصوصاً أن المغفل أو المستغفل في هذه الحالة هو المال العام، أن يستشري الفساد وأن تفوح رائحة الفضائح وأن تتحول الجمعية إلى آلة جهنمية في مجال الهدر المفتوح على الإثراء غير المشروع. وقد حدث، فيما بعد، أن وجهت تهم الفساد إلى رئيس مجلس إدارة الجمعية، المقرب جداً من كلينتون الزوج، وطرد من منصبه، وهو "يضحك في عبه" بعد أن حقق ما حققه من مآرب بفضل منصبه وسطوته على المال العام.
ولما لم يعد السكوت ممكناً على خسائر الجمعية، برغم عمليات إعادة تعويمها أكثر من مرة، ارتأت الحكومة الفيدرالية خصخصتها جزئياً وطلبت إليها جمع رأس المال الذي ضخته في الأسواق، وهو الأمر الذي لم يصادف نجاحاً لافتاً. وبدلاً من المضي قدماً في إصلاح الجمعية، وافق الكونغرس، عام 1970، على محاولة لإصلاح الخطأ ولكن بالإمعان فيه. وهكذا تم تبني شركة ثانية مشابهة عرفت باسم "فريدي ماك". وقد ترافق ذلك مع الاستمرار في تطبيق سياسة السخاء في تيسير القروض، ما أدى سريعاً إلى مضاعفة خسائر الخزانة الفيدرالية. وعلى الرغم من ذلك، حافظت عقيدة دعم الرخاء في مجال الإسكان على كامل حيويتها، وقام مصرف الاحتياط الفيدرالي، عام 2002، بضخ عشرات المليارات من الدولارات في سوق العقارات، ما سمح بإصدار رهونات موازية باعتها المصارف لمئات الألوف من المقترضين الذين لا يتمتعون بالمواصفات المطلوبة من حيث القدرة على تسديد الأقساط، والذين كانوا غالباً ما يلجأون إلى إعادة بيعها للتخلص من تبعاتها عبر إلقاء الكرة في ملعب المشتري التالي، في لعبة كان من الواضح أنها مفتوحة على الطريق المسدود. وقد تفاقمت المشكلة في الآونة الأخيرة، وعجز الكثيرون من أصحاب المساكن المرهونة عن سداد الأقساط، إما بسبب الركود والبطالة، وإما بدعوى الإفلاس، وهو الأمر الذي ألحق بالخزانة الفيدرالية خسائر بترليونات الدولارات التي تبخرت بين الصناديق الخاصة والتفليسات المصطنعة. وامتدت الخسائر إلى خارج الولايات المتحدة بسبب تشابك العلاقات المالية، وانعكست على مؤشرات البورصات العالمية التي شهدت تراجعات غير مسبوقة، كما أسهمت في تدني قيمة الدولار وارتفاع أسعار النفط وتفاقم موجة الغلاء، في أسوأ أزمة يشهدها العالم منذ أزمة العام 1929. وكل ذلك بسبب الهجوم على استثمار المال العام في مضاربات مربحة للقائمين بها على المدى القصير، وكارثية على الاقتصاد الأميركي والدولي، على المدى الطويل. ومن التداعيات المباشرة للأزمة تعرض أكثر من أربعة ملايين أميركي لفقدان منازلهم، وتراجع القدرة الشرائية في الولايات المتحدة والعالم بنسب تصل إلى مئة بالمئة.
وقد ترافق ذلك مع عجز في الموازنة الأميركية للعام القادم بقيمة 650 مليار دولار ترتب معظمها على أزمة الرهن وحروب أميركا وإجراءاتها الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب. وعلى الرغم من كلام الرئيس بوش عن ضرورة التحلي بالصبر على أمل أن يستعيد الاقتصاد الأميركي حيويته بفضل إبداعية الشعب الأميركي وتصميمه، يعتقد الخبراء بأن الحل مرهون باجتماع عدة ظروف أسهل منها دخول الجمل في ثقب الإبرة. ومن هذه الظروف، على ما اقترحه مدير البنك الدولي، أن تتعاضد حكومات العالم لإنقاذ الاقتصاد الأميركي، كوسيلة وحيدة لإنقاذ الاقتصاد العالمي. وإلا، فإن الأزمة ستتصاعد بتداعياتها المتوقعة وغير المتوقعة!
الانتقاد/ العدد 1287 ـ 5 آب/ أغسطس 2008
2008-08-04