ارشيف من :آراء وتحليلات
قمم الجامعة العربية بين جسامة المسؤوليات وهُزال المواقف

الارتباك والتناقضات التي هيمنت على قمة الكويت انعكاس مباشر لحالة التراجع الأميركي وللخلافات المستجدة بين الجهات الخليجية التي تتحكم بالسياسات العربية.
من العبث أن ننتظر من قمم الجامعة العربية أن تكون شيئاً آخر غير انعكاس أمين لواقع السياسة العربية. على ذلك، وبالنظر إلى الموقع المركزي الذي تحتله القضية الفلسطينية بين قضايا العرب الأخرى، لم يكن من الممكن لهذه القمم أن تكون -منذ اللحظة التي تبنت فيها معظم الأنظمة العربية منطق الاستسلام للعدو الصهيوني- غير صدى للسياسات الأميركية والإسرائيلية الهادفة إلى إعادة رسم المنطقة بالشكل الذي يخدم مشاريع الهيمنة إلى الحد الأقصى الممكن.
وإذا كان من المعروف أن الجامعة العربية وقممها قد تحولت إلى مجال تتجلى فيه إرادات الأطراف أو الطرف الأكثر نفوذاً فيها أي، من وراء هذه الواجهة العربية أو تلك، الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، فإن تدخلات جون كيري العلنية الهادفة حتى إلى منع صدور بيان ختامي عن قمة الكويت قد جاءت كتأكيد لهذا الواقع.
وبالنظر إلى التحكم المشار إليه بالقرار العربي، فإن الأنظمة العربية التي تأتمر بأوامر تلك الواجهة والقوى التي تحركها، قد أصبحت بلا دور غير الموافقة الآلية على ما تتخذه الجامعة وقممها من قرارات.
وقد اصبح دور ممثلي تلك الأنظمة مثالاً للتندر من قبل المراقبين الذين حدث لهم أن لفتوا إلى ضجر أعضاء الوفود ونعاسهم وهم ينتظرون نهاية الاجتماعات ليسرعوا إلى الترفيه عن أنفسهم في فنادق ومطاعم وملاهي البلد المضيف.
ولم نعدم أمثلة عن المدائح التي يكيلها هذا أو ذاك من الزعماء لزعيم آخر طمعاً بهبة أو مكرمة، أو عن بيع هذا الرئيس أو ذاك لحق بلده في استقبال القمة لبلد آخر يجمع، إلى القدرة على بذل المال، طموحاً إلى المزيد من التألق أو السبق إلى تقديم الخدمات لمشروع الهيمنة.
أما ما تندر به المراقبون حول الجهل المريع لمعظم المتكلمين من فوق منبر القمة بأبسط قواعد قراءة الكتابة العربية (على أساس أنهم -بعيداً عن مدى معرفتهم باللغة العربية التي تشكل شرطاً أساسياً لانتمائهم القومي- يقرأون نصوصاً كتبت لهم وشكلت حروفها من قبل كتبة مختصين لا يتمتعون هم أيضاً بالكفاءة المطلوبة)، فإنه يعطي صورة مفجعة عن حال الزعيم العربي الذي يفترض به أن يكون عارفاً بأمور تقع كلها فوق سطح المعرفة باللغة.

لكن قمة الكويت اختلفت عن سابقاتها بشكل ينبئ بأنها قد اقتربت من لحظة العجز عن الاستمرار بصورتها المعروفة.
أبرز المؤشرات على ذلك حالة الاضطراب غير المسبوقة في القمم السابقة. لقد شهدت القمم السابقة بعض المشاحنات خلال العقدين المنصرمين، لكنها تمكنت من المحافظة على وحدة مسارها بفضل وحدة السياسات المعتمدة من قبل بلدان الخليج المهيمنة على قراراتها.
وقد كان من الطبيعي لتفكك التحالف الخليجي في ظروف انتكاس السياسات الأميركية وصمود سوريا وتداعيات الربيع العربي أن يقود إلى الخلافات التي كادت تطيح بالقمة من أساسها، وإلى التوجه نحو اقتصار مدة انعقادها على يوم واحد بدلاً من يومين، وإلى عدم المشاركة في أعمالها من قبل ما لا يقل عن ثمانية من الزعماء، وإلى حرص العديد من قادة الوفود النافذة على "مقاطعة" القمة فور الانتهاء من إلقاء كلماتهم.
والأهم من ذلك هو هزال تعامل القمة مع قضيتي فلسطين وسوريا اللتين كرست لهما معظم اهتمامها ووقتها. فبالنسبة لفلسطين، لم يكن من الممكن في ظل التحالف المعلن مع الكيان الصهيوني ضد محور المقاومة أن تخرج القمة عن الإنشائيات المعروفة: التمسك بعملية السلام وحل الدولتين مع شجب الاستيطان والتهويد وصولاً إلى التنصل الكامل من القضية عبر وضعها في عهدة المجتمع الدولي والراعي الأميركي.
وقد بلغ الاضطراب مداه الأقصى في المقاربة المتناقضة للمسألة السورية: ترحيب بالائتلاف الوطني السوري، لكنه ترحيب جاء أشبه بشتيمة موجهة إلى الائتلاف بعد أن أعيد علم سوريا إلى مكانه فوق المقعد السوري.
وفي التحية التي وجهتها القمة إلى لبنان في مقاومته العدوان الإسرائيلي، وعلى وجه الخصوص عدوان تموز 2006، علماً أن هذه المقاومة هي التي سبق للجهات المهيمنة على القمة أن وصفتها بـ "المغامرة" وأن طلبت إلى الكيان الصهيوني مواصلة ضرب لبنان حتى تصفيتها بالكامل.
مثل هذه التناقضات الفاضحة تدلل على مدى الارتباك الذي تعيشه الجهات المهيمنة على الجامعة العربية، ولكن أيضاً على مدى ما باتت تتمتع به جهات عربية كالعراق ولبنان والجزائر من قدرة على إعادة الحياة للجامعة العربية بوجهها العروبي الأصيل الذي أصابه إبعاد سوريا في الصميم، والذي لا يمكن أن يعود إلى تألقه المفقود إلا بعودة سوريا إلى موقعها الطليعي في قيادة حركة التحرر العربي من قلب جامعة عربية ممثلة بحق لطموحات الشعوب العربية.