ارشيف من :أخبار لبنانية
حقوله زرعها العدو بالقنابل العنقودية: التبغ.. علقم المزارعين في الجنوب

كتبت رنا جوني
مع منتصف الليل يبدأ العمل وحتى منتصف النهار وعلى ضوء سراج أشعل فتيله رب العائلة.
يتسحّب الأطفال والنساء الى حقل التبغ والنعاس يأكل الجفون ليبدأوا بالقطيفة، ولا تحد قطرات الندى من حدة النعاس التي تحاول خيوط الشمس التي تتسلل عبر وريقات شتلة التبغ ان تبلسمه الى حد ما، بعدها تبدأ عملية شك الدخان حيث تضطر العائلة لأن تجلس مجتمعة على سطيحة المنزل أكثر من سبع ساعات وهي تشك وريقات التبغ بـ"الميبر" والخيط حتى تنجز ما قطفته.
رائحة الارض والتبغ تنبعث من ملابسهم فيما الايادي تتبلل بماء الدخان الذي أضفى طبقة سوداء عليها.
انها اللقمة المرة في حياة مزارعي التبغ في قرى وبلدات منطقة النبطية، مرارتها بمرارة الحياة.
لقمة مُرة وغضب وكبت! هذه هي زراعة الدخان، شتلة الصمود كما يحب الجميع أن يسميها، ولكنها اليوم تمتزج بغضب القنابل الحاقدة التي تهدد حياة المزارع الذي يقف بين حدين: سندان تردي الظروف الاقتصادية ومطرقة القنابل الحاقدة، التي غالبا ما يقطفها المزارع بدل الاوراق دون أن يبادر احد الى حفظ حقوقه وحمايته، وان بالحد الادنى.
منطقة النبطية تحاذي نهر الليطاني من كفرتبنيت الى يحمر وارنون والزوطرين مرورا بقاقعية الجسر وعدشيت وصولا الى كفررمان وصعودا الى عربصاليم وجرجوع.. هذه القرى والبلدات بمعظمها، يعتمد اهلها بشكل رئيسي على زراعة التبغ التي ترتطم في اغلب الاحيان هذه الايام بجدران الغلاء المستفحل الذي لا يروى بحده الادنى عطش المزارع الذي يمضي عاما كاملا بين زرع شتلة التبغ وقطافها وتدنيكها (تجهيزها)وصولا الى تسليمها للريجي، تراه يقف عاجزا امام سد مصاريف التبغ حيث "يطلع اخر شي راس براس" على حسب تعبير المزارع فوزي دغمان الذي امضى عمره يزرع التبغ وخسر موسمه كاملا بعد الحرب بسبب القنابل العنقودية التي احتلت حقله، واصبحت اكثر من الاوراق.
يتراوح سعر كيلو التبغ بين 6 و11 الف ليرة حسب نظافته |
العمل في الدخان او التبغ يستغرق حولا كاملا من الاعمال الشاقة من دون إجازة، قبل أن يصل التبغ إلى محطته الأخيرة، فيأتي خبراء إدارة حصر التبغ والتنباك لتسلم الموسم من المزارعين.. يتراوح سعر كيلو التبغ بين 6 و11 الف ليرة حسب نظافته، وبالتالي فانه لا يعطي المزارع حقه، هكذا يختصر فوزي دغمان حالة التبغ المتردية التي "لا تعطي المزارع حقه اذ غالبا ما يضطر الجميع للتضحية في سبيلها". فعلي دغمان ابن الرابعة عشرة الذي تخلى عن مدرسته من أجل مساعدة العائلة بالتبغ يخاطبك وكبرياؤه عالية ولكنك تلمس بين ثنايا كلامه وجعا. فهو يقول "انا مرتاح هيك ولكن كنت افضل ان اكمل تعلمي ولكن شو العمل ..!".
وهناك حالات كثيرة مماثلة لعلي لان التبغ يحتاج ليد عاملة، وفي ظل غلاء أجرة اليد العاملة يضطر الوالد للاستعانة بأبنائه. وهنا الكارثة يقول المزارع الأب فوزي دغمان (من بلدة كفرتبنيت وهو من المزارعين القدامى في التبغ يعمل هو وزوجته واولاده فيها) ان "الدخان متعب، انه شغل مر وأصعب من المر، عذاب بعذاب، عمله سنة كاملة وهو يتراجع عاما بعد عام في ظل الغلاء الفاحش والمستشري في الاسمدة واليد العاملة والفلاحة يضاف اليها انتشار القنابل العنقودية ما يحد من نسبة الاراضي المزروعة تبغا، وبالتالي فان شتلة الصمود تتغمس بالخوف القاتل هذه الايام".

تروي زينب قصتها وفي قلبها حسرة تلمسها من تنهيدتها تقول: "كيف سيكون عليه حالي لو انفجرت بنا تلك القنبلة التي تعثر ابني بها، لولا ان شاهدها زوجي ونادى لفريق ماغ وعمل على تفكيكها. نحن عائلة تعتمد في عيشها على زراعة التبغ ولا يمكننا التخلي عنها بسبب غياب البديل".
يقاطعها زوجها عباس عز الدين ليقول: "املك 8 دونمات من الارض الزراعية، ولكن اليوم لا يسمح لي الا بزراعة دونمين بسبب القنابل وحتى الدونمين لا يمر يوم ونحن نقطف الدخان، الا ونعثر على عدد لا يستهان به من القنابل".
تكمل زينب حكايتها والدمعة تنهمر من عينيها: "دمر منزلنا في حرب تموز 2006 وحتى اليوم لم يعوض علينا، فاضطررنا الى رهن محصول التبغ للبنك من أجل إعادة بناء المنزل، وها انا اليوم اتحدى الموت واولادي من أجل لقمة العيش ومن أجل إبعاد شبح الذل".
وتلفت ياغي الى ان فريق ماغ طلب منها اخلاء الارض من اجل اعادة تنظيفها لكنها رفضت بسبب رهن انتاجها من التبغ للمصرف، وهي لا يمكن أن تترك فريق ماغ يتلف الشتل. وتسأل "من اين سأسدد الدين للبنك حين سأضطر لمغادرة منزلي وتشتت عائلتي لذا تراني اتحدى الموت الى ان اجد البديل".
بين القنابل والغلاء يفضل المزارع ان يحظى بالبديل الذي يكفيه تعبه، واذا كانت شتلة التبغ تعود الى اكثر من 400 سنة ويراوح ارتفاعها بين 50 و250 سنتيمتراً، وأوراقها مختلفة الشكل والحجم، كاملة، خماسية البتلات، أحادية الميسم، بذورها دقيقة كستنائية اللون. فهي اليوم على شفير ان يستبدلها المزارع بزراعة اخف ثقلا على كاهله وكاهل اولاده تارة واقل تكلفة تارة اخرى بعد ان غدت اللقمة المرة علقما وصلت الى عنق الزجاجة ولا احد يسأل عن حال هؤلاء المزارعين وعن اوضاعهم في حين لا تعويضات ولا مساعدات.
الى متى سيبقى عليه هذا الحال؟ سؤال برسم من يهمه ان يتشبث المزارع الجنوبي في ارضه.
الانتقاد/ العدد1287 ـ 5 آب/ أغسطس 2008