ارشيف من :آراء وتحليلات

انه الاقتصاد أيها السادة..

انه الاقتصاد أيها السادة..

"ان المشهد العام في لبنان يوحي بالانهيار الوشيك،حتى لا نقول المحتم ، وانما مع وقف التنفيذ" (الرئيس سليم الحص)



يبدو أن الحديث المحموم عن انتخابات رئاسة الجمهورية نوع من الملهاة فيما السفينة اللبنانية المثقوبة تكاد تغرق بالجميع وما من ناجٍ ! . انه نقاش خارج السياق، وكأن الطبقة السياسية تريد دائما أن تأخذنا بعيداً عن الجوهر بل الخطر الحقيقي المحدق بلبنان. اليوم حديث الرئاسة، وبالأمس توزيع الحقائب الوزارية. وأمام هذا المخاتلة، لا بد من تصويب الرؤية .

البعد الاقتصادي

انه الاقتصاد الغائب الأكبر عن المقاربات السياسية للعديد من ساسة لبنان حتى لا نقول عن فكرهم السياسي!.. حالة مزمنة بدليل أن سياسة الدين استمرت منذ أوائل التسعينيات حتى يومنا. وباتت هي القاعدة ، ليس طلبا لسد العجز وحسب بل في شقٍ آخر منها لسد الفوائد المترتبة عن الديون أي ما يعرف بخدمة الدين. وبذا دخل لبنان في الحلقة المغلقة وهي ، سد العجز بالعجز .

لا يحتاج المرء ليكون اقتصادياً لكي يدرك مغزى الأرقام . انها تقول بشكل صادم بأن البلد يُنهب ويتجه نحو الهاوية!. وهذه بعض العناوين مأخوذةً من وزارة المالية تشير الى ذلك:

اجمالي الدين العام لسنة 2005 بلغ 5803 مليار ليرة - أي ما يعادل 50.7 % من الناتج المحلي - وهو يتصاعد بوتيرة عالية حتى وصل عام 2013 الى 95669 مليارا!. أي ما يعادل 143.2 من الناتج المحلي وهذه نسبة خطيرة للغاية، ولكي نتلمس مدى خطورتها نطرح المقارنة مع دولة مثل سوريا فبعد كل هذا الدمار والحرب فان حجم الديون لم يصل الى 73%من الناتج المحلي ، بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الانمائي، وفي بلد مثل السودان بلغت 83% بحسب صندوق النقد الدولي، وهذا بالرغم من الحرب الأهلية وتداعيات تقسيمه، وبلغت 85% في موريتانيا البلد الفقير .

انه الاقتصاد أيها السادة..


من الصحيح أن لبنان خرج من الحرب بمديونية وقدرها 1.7 مليار دولار لكنها كانت ضمن الحدود المقبولة حيث قابلتها موجودات من العملات الأجنبية ومن الذهب ما يعادل 4.1 مليارات دولار. غير أن ظاهرة المديونية أخذت منحى خطيرا ابتداء من عام 1994 حيث قفز مجمل الدين من 6652 مليار ليرة الى 12054 بين عامي 1993 و 1994 ، وهذا يعود للفوائد العالية التي وضعها كل من البنك المركزي ووزارة المالية على اصدارات سندات الخزينة بالليرة وقد بلغت انذاك 18% .

وقد عرّج على هذه النقطة الخبير الاقتصادي المعروف جورج قرم في دراسته بعنوان "المديونية العامة وكيفية مواجهتها" واضعاً سيناريوهات عما كان سيكون عليه الحال فيما لو جرى تخفيض هذه النسبة من الفائدة على مراحل ، ليصل في أي من السناريوهات الى نتيجة وهي أن مستويات الدين ما كانت لتصل الى هذا المستوى الخطير، وحتى بأكثرالسناريوهات تسامحاً . فلماذا تم ذلك الانفلاش ؟. وهل كانت غفلة ، أو تغافل؟!!.

وهكذا ومع تراكم الديون التي أخذت تتعاظم وقع لبنان في الفخ!، اذ بات عليه أن يخصص جزءا من المديونيه لسد الفوائد، أي ما يعرف بـ"خدمة الدين ". وهذا لأن الخزينة وحتى هذا التاريخ تعاني من عجز متزايد بلغ 6361 مليارا لعام 2013، وبالتالي فهي غير قادرة على سد خدمة الدين الا بالاستدانة!!. ذلك فضلاً عن الحاجة للاستدانة لتغطية قيمة العجز المذكور . وهذا السيناريو بات ككرة الثلج يتعاظم سنة بعد سنة . فلماذا ترك الأمر يدخل في هذه الدوامة ؟. وهل هذا كان جهلاً، أو تجاهلاً؟!!.

لقد كانت الحجج التي ساقوها لتبرير هذه المديونية هي قدوم “السلام الاقليمي“ ،وان عوائده ستكون وفيرة !!، غير أن أحداً لا يبني خططه على رمال , فيما كل المؤشرات تدل على أن "اسرائيل" ماضية في احتلالها للأراضي العربية ، واللبنانية. تخللها عدوانان كبيران على لبنان: عملية "عناقيد الغضب" 1993 . وعملية" تصفية الحساب " 1996 . المفارقة أن بين هذين العامين المذكورين بلغ الانفلاش الاقتصادي ذروته وتشير جداول المالية العامة من وزارة المالية الى أن تصاعد العجز من 1162 مليار ليرة عام 1993 ليصبح 2823 في نهاية 1995 ومن ثم ليقفز الى 5152 في عام 1997. أي تضاعف العجز اربع مرات ونصف في برهة ثلاث سنوات.

النتائج السياسية

لقد كان الحيز الأكبر من السياسات المعتمدة يتركز على سياسات مالية قصيرة المدى على حساب التنمية بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي . وجرى في هذا الاطار تأسيس نهج في الانفاق ما زال قائما ومستمراً باطراد ، يقوم على تخصيص اعتمادات الموازنة للانفاق على العمليات الجارية فيما تركت مشاريع التنمية للقروض الخارجية، وبالتالي رهينة ارادة المقرضين وتوجهاتهم . وهذا كله أدى في المحصلة الى زيادة العجز وانخفاض الدخل القومي.

لا وجود للصدفة في الحياة السياسية فقد كان المطلوب عمداً أن يكون الاقتصاد اللبناني بلا قاعدة أو ركيزة مادية ثابته قائمة على صناعةٍ أو زراعةٍ .بل اقتصادٌ أجوف ، تُغطى تكهفاته بطبقة من السيليكون –المخادع!!- متمثلةً في هذا الحجم من الودائع في بنوكه بحيث باتت هذه الأخيرة ركيزة الاقتصاد اللبناني تضخ للدولة السيولة عبر سندات الخزينة جانية منها أرباحاً كبيرة غير خاضعة للضريبة !!. هذا هو لبنان المطلوب المكبل المرتهن لتروستات المصارف .

هذا متى علمنا بان كل المصارف المحلية ما هي الا أجرام صغيرة تدور في فلك المصارف العظمى القابعة في الغرب . وانطلاقاً من هذا فان لبنان بات تحت شكل من أشكال (الانتداب) غير المعلن وهو هذه المرة انتداب بالاقتصاد. ليس في ذلك اي مبالغة . متى علمنا أن الاقتصاد اللبناني رهن اشارة. اشارة ما من تروستات المصارف في أمريكا او صندوق النقد الدولي يشيرون فيها الى أن لبنان بات في "دائرة الشكوك" لجهة دفع التزاماته المالية. الأمر الذي سيترتب عليه بهذه الحالة وقف التسهيلات الائتمانية للبنوك اللبنانية . ما يعني سحب المودعين لودائعهم ، وأزمة سيولة تؤدي الى عجز الدولة عن دفع النفقات الجارية.. اي الى الافلاس!!. يكفي لو أن هذه مجرد فرضية واقعية كي تظهر بأن الأقتصاد اللبناني يقف على عمود واحد!!.. ولكن ماذا لو أن هذه الفرضية بدأت تلامس الواقع؟!!

فوكالات التصنيف الائتماني الثلاث المعتمدة عالمياً : ستاندرد أند بورز ، وفيتش ، وموديز تراجعت في تصنيف لبنان من " المستقر" الى "السلبي" – في عام 2013 أي ((B- - وهذا يعني بحسب تقويمهم أن "للملتزم القدرة على الوفاء بالتزاماته المالية حاليا لكنه بات يواجه شكوكا مستمرة قد تؤثر على دفع التزاماته المالية."!!. ونعتقد بأن الأمور ستزداد تعقيداً عند تطبيق سلسلة الرتب والرواتب بشكلها المطروح ، وفي ظل هذا العجز الذي تواجهه الخزينة.

نعم لم يكن كل ذلك صدفة. منذ اليوم الأول كان المطلوب رأس لبنان المقاوم، تارة بالحروب تشن على مقاومته وتارة بالتحضير للحرب الاقتصادية المعلقة حتى إشعار آخر، والتي قد يستخدمونها كورقة ضاغطة لإحراج المقاومة يوماً ما.

لاحل الا باعادة تكوين الاقتصاد اللبناني على أسس استثمارية منتجة مع اصلاح اداري وقضائي لوقف الهدر . لكن يظل المخرج السريع من هذا المأزق هو بتحرير قطاع النفط من التجاذبات , هنا بيت القصيد, وهذا يفسر لنا لعبة التجاذبات لتعطيل مجيء اي رئيس جاد ، وصارم قادر أن يلعب أوراقة كاملةً كرئيسٍ للجمهورية.
2014-05-01